في لحظة غير متوقعة ولا محسوبة في ذهن عامة العراقيين، سرقت الموصل بتاريخها وناسها وحضارتها وكل ما فيها. ربما تكون هذه اللحظة معلومة ومدروسة عن بعض الساسة في الحكومة المحلية والاتحادية وحكومة الاقليم. فما حدث لا يمكن تبرئة احد منه، كما لا يمكن تحميله لجهة واحدة. الكل مشترك بقتل الموصل وبنسبة تختلف حسب الموقع والنفوذ والمسؤولية.
ما جرى في الفترة القريبة الماضية من استحقاقات سياسية، منها الانتخابات البرلمانية العراقية، وانتخابات الرئاسة السورية وانتخابات الرئاسة المصرية، والتقارب بين الاطراف اللبنانية بحل وحسم مشكلة الرئيس. الانتخابات المصرية انتهت بما هو متوقع، لكن الانتخابات العراقية والسورية جاءتا بما لا يرضي بعض اطراف الصراع الاقليمية.
بالطبع هذا كله مرتبط بما حدث قبل شهور، وبالتحديد بفوز الرئيس الايراني روحاني، وتبديل ولي العهد القطري، والتغييرات في دفة الادارة السعودية بشكل خفي، مع تبدل مسارات واتجاهات الصراع السوري، وموقف تركيا الجديد، حظر الاخوان المسلمين في مصر، وتلاه اقرار الدستور الذي يحظر تأسيس الاحزاب الدينية، مع جملة تنازلات قدمها حزب النهضة الاسلامي في تونس لصالح اليسار والقوى المدنية والعلمانية، ودخول امريكا في مفاوضات مع حركة طالبان بعد سنوات من القتال والاحتراب، وفي النهاية ظهور ما يسمى بـ"داعش" واختفاء اسماء القاعدة والارهاب الدولي والجماعات التكفيرية وغيرها من اسماء كانت تطلق على جماعات متشددة.
لذا يمكن عد ما حدث في النصف الاول من العام الحالي مكملا لما حدث في النصف الثاني من العام الماضي، حيث دخلت روسيا بقوة في صناعة القرار الدولي، ولم يعد الدور الامريكي نشطا بما يكفي، هذا مع نشاط دور الدبلوماسية الصينية، وموقف اوربا المنتظر من شكل الصراع الدائر لتحدد بعد ذلك دفة الاتجاه صوب من ربح الصراع ولو بشكل نسبي. الكثير من المعادلات والنظم السياسية تتغير، ناهيك عن الازمة الاوكرانيا والموقف الروسي الحازم، مع تخبط الرئيس الامريكي اوباما وفشله في اكثر من ملف، الامر الذي ادى الى تدني شعبيته في الاوساط الامريكية .
دخول الامريكان في مفاوضات مع طالبان من جهة، ومساندتها الحكومة العراقية من جهة اخرى بضرب ما يسمى الان بـ "داعش"، مع دعم خفي لهذه الجماعة في سورية، يبقى في صلب البراغماتية الامريكية وكيفية الاهتمام بمصالحها الامنية والسياسية والاقتصادية على حساب كل اطراف الصراع. ناهيك عن الصفعة التي وجهت الى قطر والسعودية وفشلهما في ادارة دفة الصراع السوري، او على الاقل الخروج بنصر، ولو نسبي، الامر الذي انعكس على القضية اللبنانية، التي كسبت الكثير من الاصوات التي كانت تقف الى الجانب القطري والسعودي، وإن إعلاميا. هذا مع سلسلة الاحداث والتظاهرات التي عمت تركيا وكشف قضايا فساد اداري ومالي، الامر الذي اجبر تركيا العودة الى جادة الصواب، والتخلي، وإن مؤقتا، عن مشروعها في المنطقة.
والحال يشمل السياسية الايرانية الجديدة والانفتاح على الغرب وصفقة الملف النووي، والتاثير الايراني في العراق وسورية ولبنان، مع ازمة البحرين التي تثور وتخمد بين حين وآخر. واهم ما في الامر التقارب النووي الامريكي الايراني في المباحثات الاخيرة.
وسط كل هذا وما سيستجد، عملت القوى الخارجية الخاسرة في الانتخابات العراقية والسورية الى فتح معركة جديدة في ساحة اكبر تمتد من الرقة وحلب ومشارف دمشق الى الموصل وتكريت وسامراء ومشارف بغداد. جبهة كبيرة وواسعة تتعب اكثر الجيوش حنكة ومرانا على القتال، خاصة في ما يعرف بحرب العصابات. وبالطبع هي حرب ابادة طائفية عراقية بالنيابة عن القوى والجهات الخارجية، التي تجلس وتتقاسم مناطق النفوذ والثروات الطبيعية، او تصل الى ما هو ابعد وتحدد شكل الخريطة الجديدة التي ستكون بناء على طوائف وقوميات، تبدأ بنقطة محددة ولا تنتهي بنقطة بل تبقى مفتوحة للأبد.
بالطبع ان للأخطاء المحلية دور كبير في ما حدث من انهيار للجيش في الموصل، حيث سياسة الاقصاء والتهميش، مع العقلية الضيقة في بناء جيش وطني يتكفل بحماية كل شبر في الوطن. علما ان اسس بناء الجيش الاولى لم تكن موفقة ومنطقية، خاصة بعد حل جيش سابق كان يمكن تشذيبه بشكل مهني والاستفادة من خبرته في بناء العراق الجديد. ناهيك عن قوات وزارة الداخلية، وخاصة الشرطة الاتحادية، التي انشئت في فترة صراع وقتال طائفي حيث ظلت هذه القوات مثار علامات الاستفهام، وطريقة تعامل هذه القوات مع الناس في كل مناطق البلد سجلت عليها ملاحظات كثيرة. وعملية داعش ومن تحالف معها من التنظيمات والخلايا النائمة كانت لضرب وتدمير مواقع هذه القوات التي تركتها بطريقة لم يفسرها لنا احد من ساسة العهد الجديد.
التقارير والمعلومات تقول ان قرابة 500 مليون دولار تم ادخالها في مصارف الموصل ناهيك عن المصوغات الذهبية والسبائك وغيرها من جانب، ومن جانب اخر، توزيع آليات عسكرية جديدة واسلحة وعتاد قبل اسبوع من الازمة. وتصل قيمة ما ترك الى نحو 14 مليار دولار، حيث تم نقل اغلب تلك المعدات والاسلحة الى سورية مع الاموال حيث وصلت ميزانية داعش الى قرابة 2 مليار دولار. هذا الامر يشير الى ان ما حدث له اكثر من تفسير وتحليل. وكل ما يقال له جانب من الصحة.
ترى كيف سيتم استثمار الاموال المنهوبة من الموصل، ومن الذي أمر بإيداعها في الموصل، ومن المسؤول على ضياع العدد الكبير من الاسلحة المتطورة، ولماذا تنقل الى سورية؟
سؤال يشير الى لعبة خفية كبيرة، رؤوسها في الخارج ومنفذوها في الداخل.
مقالات اخرى للكاتب