عندما التقيت المرشد العام للإخوان المسلمين الأستاذ مأمون الهضيبي رحمه الله قبل اثنتي عشرة سنة بالتمام ، كانت حرب نظام الرئيس حسني مبارك ضدهم لا تعرف السكينة . وصلت مرحلة التصادم وتجاوزت كلّ حدّ معقول ، وألقت نصف قياداتهم وقواعدهم وراء القضبان ، وأخضعتهم للعذاب بغير حساب ، فكانت الخطوب والأهوال .
استأذنت الأستاذ المستشار أحمد سيف الإسلام نجل مؤسس الجماعة الإمام حسن البنّا أن نذهب إلى المرشد العام . خرجنا من دار القضاء وقطعنا ميدان طلعت في قلب القاهرة متجهين نحو مكتبه . كانت شوارع القاهرة مزدحمة كعادتها ، وحدائقها في أحلى مواسمها .
مكتب متواضع في شقة بسيطة نصفها مصلّى ، ونصفها الآخر صالة للاستقبال ، تتصدّرها مكتبة مليئة بكتب التفاسير ، والصحاح ، والسنن ، والفتاوى ، والوصايا العشر للبنّا ، وأدبيّات الإخوان ، وكانت الشقة في الطابق الثاني في بناية تشعرك أنك في قبضة أمن الدولة ، لكثرة ما كانت تتربّص بها عيون الوشاة والمخبرين .
وجدت هناك من قيادات الإخوان الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح والدكتور عصام العريان . كان الهضيبي مدركاً لما يحيق بالجماعة من مخاطر ، وكان يعرف أن هناك ظروف ضغط شديد يتعرّضون لها داخل مصر وخارجها بموجات من المعتقلات والسجون والنفي ، وكان الحظر السياسيّ أيّام الرئيس مبارك يفرض عليهم النزول إلى العمل السرّي ، وأن يتوقعوا ضربات موجعة من القبضة الحديدية ، وكانت هناك قوى وأحزاب تشمت وتتشفّى بهم ، ولم أجده يشعر بالإحباط ، وعمره تجاوز الثمانين ، فلم يكن هناك ما يخشاه سوى لقاء ربّه بقلب سليم .
تحدّثنا طويلاً ، وسمعت من المرشد العام إجابات على أسئلة كانت تحيّرني . سألته عن كتاب ( دعاة لا قضاة ) المنسوب إلى والده الشيخ حسن الهضيبي ، وتوقفنا عند ( معالم في الطريق ) أخطر كتاب في القرن العشرين ، للأستاذ سيّد قطب ، واستفهمت منه عن سلسلة مقالات نشرها في تلك الفترة الأستاذ مكرم محمد أحمد وكان رئيس تحرير مجلة ( المصور ) تركزت في الهجوم على الإخوان بمانشيت عريض ( الوقائع الخفيّة ) ، وقال المرشد : إن المستشار السياسي الدكتور عبد الحميد الغزالي ، ردّ على افتراءات مكرم بمقال ( قضايا الأمة أهم من الهجوم على الإخوان ) ، وكان الغزالي طرفاً معنا في الحديث ، وأعطاني نسخة من الرد ، وقرأته ووجدت في سطوره ما يوحي بمعركة عاصفة قادمة .
في تلك الأيام كان هناك جيل من شباب الإخوان يطالبون بالتجديد والتحديث في الشكل الهرمي للجماعة ، ويؤكدون الحاجة إلى إعادة بعث جديد .
ثم دارت السنين ، وخرجت مصر إلى ميدان التحرير تخلع مبارك عن عرشه ، وخرج الإخوان المسلمون من أقبيتهم وسجونهم واجتماعاتهم السريّة إلى الميادين . كانوا بحق هم القوة المؤثرة في الشارع المصري يعبّرون عن آمالهم الواسعة وأمانيهم الغالية ، ثم ما لبثت هذه الآمال والأماني أن تبددت كلها مع الأسف ، لتكون استئثاراً بالسلطة .
خطرت عليّ يومها أسئلة كثيرة : ماذا سيفعلون بمبدأ تطبيق الشريعة الإسلامية ؟ هل سيقيمون جنة من العدل الاجتماعي ؟ هل ستسقط العروبة سهواً من بيان النصر إذا تذكرنا كتابات وخطب الشيخ محمد الغزالي ؟ أين سيذهبون بشعاراتهم القدسية في عدائهم لما كانوا يصفوه بالطاغوت الأمريكي بعد أن أصبحت واشنطن تستقبل عدداً من قياداتهم لقاء المدلّلين المغمورين بالغفران ؟!.
سلسلة أخطاء فادحة ارتكبها إخوان مصر ، كانت من نتائجها خطف الثورة ، وانقلاب عسكري بتمويل خليجي ، وظهر أن الإخوان الذين قدّموا أنفسهم فوق القداسة ، لا يؤثرون على أنفسهم حكماً ، بل كانوا يريدون الاستيلاء على السلطات الثلاث مجتمعة ( التشريعية والتنفيذية والقضائية ) . يومها كتبت أقول : إنهم إذا استمروا على أخطائهم سيعودون إلى مخابئهم للعمل السرّي تارة أخرى .
تعود أطياف من هذا اللقاء إلى ذاكرتي ، وأنا أقرأ في الأخبار ، عن اضطرار قيادات اخوانية لمغادرة دولة قطر . آخر معاقلهم بعد تركيا .. ومرة أخرى أقف أمام هذا السؤال : أين يذهب الإخوان لو فقدوا ملاذهم الأخير ؟!.