(1) مقدمــــة
إن مفاهيم مثل: الهوية، الموروث، الرموز الدينية، قيم المجتمع، ثوابت الإسلام، العادات والتقاليد، خصوصية المجتمع، الرجل رجل والمرأة مرأة، المجتمع المحافظ، المجتمعات المتدينة، الإسلام صالح لكل زمان ومكان ...الخ، هي بالمجمل كلمات ترددها الجموع من مئات السنين إن لم يكن أكثر، باعتبارها مسلّمات مفروغٌ منها، حتى انتهي الأمر بأن صارت ثوابت لا تقبل الجدل، ولا إعادة القراءة أو التفكيك، ومن باب أولى النقد والإستبدال، تتعاقب على توقيرها، وتحتفظ بها ككنز ثمين لا ينبغي التفريط فيه أو التخلي عنه، تتداولها الأجيال المتعاقبة بصورة عمياء، وكل جيل يتلقفها من الجيل السابق عليه من دون نقد ومن دون تفكير، ويتعرض منتقدها للرمي بالخيانة الوطنية أو الكفر، بل وبالسعي لنشر الفساد والبلبلة وإهانة المجتمع، والإساءة للأمة ولرموزها وللتاريخ وحتى للدين.
ولاحقاً، طرأت مفاهيم جديدة أنتجتها حالة التغيير، التي طالت دول ما يسمى بالربيع العربي مثل: الثورة، الثوار الحقيقيون، الأزلام، الفلول، الإسلام هو الحل، دولة إسلامية، حكم إسلامي ... الخ، وانتشرت بسرعة (بأقل من ثلاث سنوات) ليتلقفها كثيرون، ويداولونها بينهم مصحوبةً بشُحنة عاطفية، تلتصق فوراً بجدران اللاوعي، وتدأب الجموع على ترديدها هكذا، إلى أن تُستعاد بعد فترة، وقد صارت رديفاً لمقدس لا يمكن التشكيك به.
وكلما تقدم الزمن بمجتمعاتنا، كلما أنتجت "حزمة" جديدة من المفاهيم، ترفعها عالياً وتعلن أنها فوق النقد، فوق التشكيك، وفوق إعادة التفكير بها، إذ تصير مقدسات، تصير كما لو كانت ديناً يُتدين بها دوناً عن الدين، ويصير لبعضها وظيفة سافرة وصريحة، هي تقنين التخلف واللامساواة، وشرعنة التمييز ضد المرأة، وتكبيل العقل، وتقييد حرية التعبير، والحد من أهم سُنة من سنن الكون وهي التطور.
ويحدث ذلك بالذات في مجتمعاتنا، بسبب حالة التقديس المستشرية فيها، فجموع شعوبنا الناطقة بالعربية، جموع تلوذ دائماً بالمقدس الذي يأتيها من الله، أو يأتيها من الأجداد، أو القادة، أو الرموز التاريخية والوطنية والدينية، إذ يمنحها ذلك شعوراً بالتميز، لإختصاصاها بتلك المقدسات دوناً عن غيرها من الأمم، ويُشعرها بالآمان، وبأنها على الطريق الصحيح تماماً، كونها متمسكة بقيم أولئك الرموز المقدسين بالذات، والأهم أنه يعفيها من كُلفة صناعة مفاهيمها الخاصة، وثوابتها التي تنتمي لتجربتها وحدها، لا للمقدس الفوقي (الدين) أو المقدس الماضوي (الأجداد\الرموز)، فعملية صنع المفاهيم التي تنزل منازل الثوابت، هي عملية صلفة، عنيدة، تحتاج للكثير من المِراس والمكابدة، تحتاج وقتاً طويلاً كي تنضج وتتعتق بهدوء، وينبغي أن تمر بأطوار من النضال والنقاش العميق بين أطياف المجتمع، وكي تصير بالنهاية مشتركاً إنسانياً بالتوافق، لا بالوراثة ومحض الترديد الآلي الرتيب.
وعلى ذلك، فلن يكون غريباً والحالة هذه، أن تلاحظ أنه رغم خلع القداسة على تلك المفاهيم، والتشبث الكبير بها، إلا أن كثيرين يخرقونها في معاملاتهم، ويظهِرون عكسها في سلوكهم اليومي، وأن آخرين يستعملونها كما يحلو لهم، ويضعونها بالسياق الذي يتفق معهم، ويبنون عليها تصوراتهم للمفاهيم والعلاقات، ولنتائج هذه العلاقات داخل المجتمع، لتصير بالنهاية ملزمة للبعض دون البعض الآخر(غالباً هو الطرف الأضعف في المجتمع)، هذا لأنها لم تكن من البداية نتاج اختيار وقناعة الجميع، بل نتاج وراثة وترديد زمني طويل، فمفاهيم مثل المجتمع المحافظ، والمتدين والعادات والتقاليد بالذات، تبدو كما لو أنها تخص المرأة فقط، ولا تكاد تعني الرجل الذي يستطيع أن يواصل حياته ـ غالباً ـ رغم خرقه لها، نفس هذه المفاهيم، جعلت المرأة في ليبيا على سبيل المثال، تسجن نفسها في صدفة، مقيمة من نفسها ملكةً على الفراغ، ولشدة خوفها من النقد، فإنها ترفض ـ عن وعي أو لا وعي ـ أن تنظر للشقوق التي تأتي لها بالحرية والتغيير، بل إنها تعمل جاهدةً على سد تلك الشقوق، ومفاهيم كهذه بالذات، صارت بالنسبة لبعض النُخب العربية الكلاسيكية المتهافتة، الطريق الأسهل لتسيّد القطيع من جديد، بدل تحريضه على المطالبة بحريته، والتوقف عن صناعة دكتاتورييه واستنساخ طغاته من جديد عقب ما يسمى بالربيع العربي، وهي هي ذات المفاهيم، التي تمنع شبابنا وشاباتنا اليوم، من التعبير عن أنفسهم وعن اختلاف تمثلهم، للحياة وللحرية وللدين عن تمثل (الرموز) لها، لأنهم يعون بشدة قبضة الرقيب الديني والمجتمعي، ويعرفون جيداً مآلات الظهور بمظهر لا يرضى عنه المجتمع.
إن مفاهيم كهذه، صارت اليوم محض كلمات قميئة وسيئة الصيت، لأنها تنهض بعبء منع المجتمع من الحركة، والفكر من الجريان، والاختلاف من البروز، والمرأة والشباب من التعبير عن أنفسهم، وصارت اليوم حِملاً يجب نفضه، وثِقلاً عقلياً معوّقاً يجب طرحه، وذلك بالبدء علناً في مناقشتها، وفي تفكيك بنيتها، وتكذيب قدسيتها، والشروع في إحلال ثوابت أخرى بديلة عنها، حقيقية وموضوعية، ليس أساسها التوارث، بل أساسها العقد الإجتماعي، القائم على تراضى الكل بالمجتمع رجالاً ونساءً، لينتهي الأمر بإحلال قيم ومبادئ أخرى محلها، قيم جديدة متوافقة مع روح العصر، ملبية لحاجة كل فئات المجتمع، كمبادئ إحترام القوانين من الكافة، والعدالة الإجتماعية، ومبادئ حقوق الإنسان الكونية، وقيم الحرية، والمساواة، والمواطنة، والديموقراطية، والفصل بين السلطات ... الخ.
وإن أردنا حقاً أن نتوغل بعيداً في الحرية، فيجب أن نفكر في تفكيك هذه الكلمات بل وفي لطمها بالكامل، وأن نفعل ذلك من دون أن نشعر بأننا نقترف معصية، بل بأننا في الحقيقة نُسدي صنيعاً لعملية التحول الديموقراطي في ليبيا القادمة وفي المنطقة، وأن نتوقف عن تداول ثوابتنا الفكرية الجامدة، بأن نعلن أننا بحاجة لـ "ثوابت قيمية" جديدة نُنشزُها بناءً على توافق لا بناءً على توارث، وبهدف تحريك المجتمع لا بهدف تجميده وشل حركته، لكن بنفس اللحظة التي نفعل فيها ذلك، لا يجب أن ننطلق من نقد ثوابتنا و"موروثاتنا التقليدية" من باب استفزاز الآخرين، والحط مما يعتقدونه صواباً، بل من خلال نشر ثقافة مدنية حديثة تتأسس على الحوار الهادئ، والنقاش المنطقي، والمواجهة بمسؤولية وتحمّل العواقب، وهذه السلسلة من المقالات ـ إن قُدر لي المضي بها ـ ستحاول جاهدةً فعل شيء بالخصوص، بتقديم محاولة صغيرة للبدء بإعلان الخروج على الثوابت التقليدية، لصالح ثوابت قيمية أكثر تسامحاً وأكثر إنسانيةً، بما يمكن أن يُسهم في تعبيد الطريق أمام أجيال قادمة، لا نريدها أن تعاني ما عانيناه نحن.
يتبع ..
مقالات اخرى للكاتب