لم أكن مخطئاً، كما لم يكونوا عشرات ألوف المواطنات والمواطنين العراقيين مخطئين، دع عنك جمهرة المثقفين من كتاب وصحفيين وعلماء وأدباء وفنانين، حين أكدوا بأن السياسات الطائفية التي تمارس اليوم لا تحصد الخير للبلاد والشعب العراقي، فما الحكمة القائلة من يزرع الريح يحص العاصفة التي لا يمكن إلا أن تكون هوجاء فتدمر وتحرق الأخضر واليابس معاً, والتي لا تبقي ولا تذر. وها هو الشعب يقف مشدوهاً وحائراً أمام حقائق الوضع بالبلاد. فكيف نقرأ عواقب السياسات الطائفية للقوى الإسلامية السياسية الفاعلة، التي وافقت وأقرت المحاصصة الطائفية، وقوى الاحتلال الأمريكي – البريطاني التي كرسته فعلياً منذ تأسيس مجلس الحكم الانتقالي وما يزال يسري حتى الآن رغم الاختلال الشديد في الموازنات التي زادت في الطين بلة، على الوضع الجاري بالبلاد؟ القراءة الجدية تؤكد ما يلي:
1. جزأ نظام المحاصصة الطائفية والسياسات الطائفية التمييزية الجارية المجتمع العراقي إلى هويات فرعية، إلى أتباع ديانات ومذاهب متصارعة وإلى حدود بعيدة متعادية، وخاصة القوى العاملة في الأحزاب الإسلامية السياسية، شيعية كانت أم سنية، والتي نجحت بصورة واسعة وجهود استثنائية حثيثة غير نبيلة إلى نقل هذا الصراع الطائفي إلى كل المجتمع، وهو ما يواجهه المجتمع حالياً؛
2. وإذ كان الشعور لدى أتباع المذهب الشيعي بالمظلومية من نظم الحكم التي مارست الطائفية باسم القومية العربية واتهمت الشيعة بالشعوبية واتهمت الشيوعيين بهذه التهمة القبيحة ظلماً، فإن وجود الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية على رأس السلطة وبالطريقة الطائفية الفجة التي تمارس فيها هذه الأحزاب حكم البلاد، خلقت الشعور بالمظلومية لدى السنة، ورغبة لى الشيعة في الانتقام منهم لسياسات صدام حسين العدوانية ضد الشعب كله والتي لم يكن السنة كجماهير مسؤولة عن تلك السياسات؛
3. هذا الشعور الجديد الذي عبر عن وجود واقع فعلي له على أرض الواقع السياسي والاجتماعي بالبلاد ساعد بوضوح كبير إلى ممارسة الأحزاب الإسلامية السياسية السنية، ومن منطلق طائفي، إلى تشديد الصراع ونقله إلى صفوف الناس في المناطق التي أغلب سكانها من أتباع المذهب السني وعمق الشعور بالمظلومية والاحتجاج من جهة، وساهم في تقبل الأفكار المتطرفة التي حملتها قوى القاعدة وداعش فيما بعد والعمل معها وبشكل خاص من جانب قوى كانت بالأصل من أيتام البعث المدحور والتي وجدت فرصة مناسبة للتصعيد من جهة ثانية، ورغبة الحاكم الفرد في تصعيد الصراع الطائفي لتحقيق أوسع اصطفاف طائفي ممكن وأشرس استقطاب مطلوب لتحقيق نتائج إيجابية لصالحه في الانتخابات العامة القادمة من جهة ثالثة، وكان هذا هدف المتطرفين من قوى السنة أيضاً من أمثال هيئة علماء المسلمين السنة؛
4. استطاعت قوى القاعدة وداعش الجديدة أن تعيد أوضاعها بعد ضربات تعرضت لها بفعل قيام تنظيمات الصحوات التي رعتها الولايات المتحدة وفرطت بها حكومة المالكي بإصرار عجيب, وتمكنت من خلط الأوراق والربط بين مجموعة الأهداف المشروعة لسكان المناطق الغربية من العراق بمشاريعها العدوانية المناهضة للشعب العراقي كله ولوحدته. وزاد في الطين بلة امتناع حكومة المالكي عن الاستجابة للمطالب العادلة والمشروعة, ولم يكن بعضها سليماً، إلى تفاقم الوضع على النحو الذي يواجهه العراق في المرحلة الراهنة؛
5. إن المشكلة الكبرى تكمن في قناعة المالكي خطأً بأن الحل ليس سياسياً بل عسكرياً وأمنياً، وهو الخطأ الأفدح من ناحية الشعور بالوطن والمواطنة، وهو الحل الأمثل، كما يعتقد الطائفيون، من ناحية استمرار وجود الأحزاب الطائفية الشيعية على رأس السلطة، ويمتنعون بقبول أية مقترحات عقلانية تقدم للحكم لحل المشكلات القائمة؛
6. ومن العوامل المعمقة للصراع الطائفي بالعراق والعدوان على أتباع الديانات الأخرى، كالمسيحيين والمندائيين والإيزيديين والبهائيين والشبكيين وغيرهم، تبرز في تلك الجهود الحثيثة والمتعاظمة التي يبذلها حكام دول الجوار المعادين للعراق ومصالح العراقيين والمتطلعين إلى تحقيق أهدافهم وتعزيز نفوذهم بالعراق, وهم حكام الدولة الإسلامية الإيرانية والمملكة العربية السعودية وإمارة قطر الأمريكية وغيرهم، سواء بالدعاية والإعلام أم بالأموال والانتحاريين والأسلحة أم بمعدات التفجير وتسهيل العبور عبر الحدود وكثرة الجواسيس والأتباع العاملين داخل لبلاد لصالح هذه الدول؛
7. ولا شك في أن الولايات المتحدة لا تمارس سياسة إنهاء الصراعات بالعراق ولا بسوريا، رغم العبء الذي يشكله هذا الوضع على سياساتها الخارجية والداخلية، لأنها ترى في ذلك، خدمة لبعض أهم جوانب سياساتها في المنطقة ولإسرائيل، كما يبعد قوى الإرهاب عن الاهتمام بداخل الولايات المتحدة أو الدول الأوروبية، وكان هذا العامل واحداً من العوامل المهمة جداً التي دفعت جورج دبليو بوش إلى شن الحرب ضد النظام بالعراق لدفع قوى الإرهاب إلى العراق، إضافة إلى أفغانستان؛
8. ومما يزيد من تعقيد اللوحة العراقية سوء الحالة الفكرية والسياسية والاجتماعية الراهنة في المجتمع العراق التي نجمت عن أكثر من خمسة عقود من الاستبداد والإرهاب والظلم والحروب الداخلية والخارجية والحصار الاقتصادي الدولي والعزلة عن العالم والتحجر الفكري، التي ساهمت في إضعاف شعور الوطن والمواطنة وأضعفت مواقع القوى الديمقراطية العراقية لصالح القوى الغيبية وولوج الناس بسبب الخيبة والاحباط في خضم الغيبيات والاستعانة بشيوخ الدين للخروج من المآزق اليومية التي عاش فيها الفرد والمجتمع!
9. وإذا كان الإرهاب الذي تمارسه قوى القاعدة وداعش وغيرها من التنظيمات والمليشيات الإرهابية يشكل وجهاً واحداً من العملة، فإن الوجه الثاني لهذه العملة في ظل الأوضاع القائمة هو الفساد المالي والإداري بكل مضامينه وأشكال ظهوره في البلاد، بحيث لم يعد الحديث يجري عن الملايين بل المليارات من الدولارات، مما يساهم في تعقيد عملية البناء والتنمية والابتعاد كلية عن المشاريع الاقتصادية الإنتاجية وإبعاد العراق عن المنتجات التي ربما تنافس منتجات دول الجوار وتمنع مبيعاتها للعراق، كما يحصل اليوم مع ضعف التوجه صوب إقامة مشاريع المنتجات النفطية (المصافي مثلاً) لصالح استيرادها من إيران مثلاً. ولهذا نجد استمرار وجود مظاهر حادة للبطالة والفقر والحرمان التي تعشش بالبلاد وتساهم في خلق الأجواء المفيدة لقوى الإرهاب والإفساد في المجتمع، وتشكل أرضية صالحة للاستبداد.
10. ومن المظاهر السيئة و المثيرة حقاً أن نجد في المجتمع عناصر كانت تحسب على القوى الثورية والديمقراطية، قد تحولت بفعل سحر ساحر وضيع ليس إلى وعاظ للسلطان حسب، بل إلى عناصر تساهم في تعميق الصراع الطائفي والديني بالبلاد وتبرر للحاكم أفعاله الفردية والاستبدادية والابتعاد عن ممارسة الحكمة في معالجة الملفات التي يفترض معالجتها. لقد تحول بعضها الكثير إلى عناصر شاتمة وسابة ومسيئة ضد كل من يكشف عواقب السياسيات الطائفية الراهنة على المجتمع وقذف المعارضين بتهم كاذبة يأخذ بقول المفترين "إن الماء الذي يسكب على الأرض يصعب جمعه". ولكن حبال الكذب قصيرة وقصيرة جداً سرعان ما يكشف زيف هؤلاء وتشوههم الذاتي وينطبق عليهم قول الشاعر:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي بأني كامل
فما السبيل للخلاص من هذا الوضع السقيم الذي يعي تحت وطأته الشعب العراقي؟
لا أمتلك حلاً سحرياً لهذا الوضع الناشئ الذي عمره أكثر من خمسة عقود، ولكن أدرك بأن الحكماء والعقلاء والوطنيين من العراقيات والعراقيين يملكون القدرة على السير في طريق الخلاص من هذا الوضع المريض جداً الذي يكلف الشعب العراقي يومياً المزيد من الأرواح والخراب والعداء والكراهية والحقد، أدرك بأن القوى الديمقراطية تملك مثل هذا البرنامج الذي يمكن استكماله وتحسينه وتطويره بمشاركة الشعب وكل الحريصين على هذا الشعب والوطن، أدرك بأن التحالف المدني الديمقراطي قد طرح مثل هذا البرنامج الانتخابي للانتخابات العامة في شهر نيسان/أبريل من هذا العام 2014. أدرك طبعاً صعوبة التغيير لما خربته الأحزاب الإسلامية السياسية خلال السنوات العشر المنصرمة في الفرد والمجتمع، وأدرك عواقب سياسات أربعة عقود سابقة على الإنسان العراقي، ولكن مع ذلك علينا الكفاح لإقناع الشعب وإزالة الغشاوة عن عيون الناس، هذه الغشاوة التي نشأت بفعل سياسات القوميين الشوفينيين والطائفيين السياسيين. لهذا ليست لدي أوهام لما يمكن أن يحصل في الانتخابات القادمة، ولكنها مع ذلك قادرة على الخلاص من الحاكم الذي قال جئنا لنبقى لأنه عبر عن قدرته على استخدام كل شيء للبقاء في السلطة، سواء المقبول وغير المقبول وهو ما ينبغي مواجهته. إن من واجب الشعب العراقي وقواه السياسية أن يجري التمييز بين الإرهابيين, ومنهم داعش والقاعدة وغيرهما، الذين يتطلعون إلى تدمير الشعب العراقي وقذفه في الظلمات والتي يفترض مساندة القوات المسلحة في تخليص الوطن منهم، وبين مطالب الشعب العادلة، أو أي جزء منه، كما في مطالب بنات وأبناء الشعب في المناطق الغربية من العراق وكذلك المطالب التي تطرح، وهي كثيرة في مناطق الوسط والجنوب وفي الإقليم أيضاً.
مقالات اخرى للكاتب