في فترات سابقة كان الكثير من أحياء بغداد ومناطقها يتشابه بالجمال والتنظيم والنظافة وسعة البيوت التي تتقدمها الحدائق . حيث شهدت تلك الفترات بناء ما يعرف بالبيت - الحديقة والذي مازالت بيوت قليلة منه في بعض مناطق بغداد، ربما تنتظر الدور بالتقطيع والتقسيم حسب الحاجة او حسب المال . لم يكن يخطر ببال احد ان يتحول هذا التشابه بشكل عكسي، حيث يغلب التشويه والخراب على واجهة أحياء ومناطق بغداد. حتى الأحياء والمناطق الشعبية لم تكن على ما هي عليه الان من خراب ودمار.
(أم سيروان) ، سيدة عراقية اضطرت الى ترك البلد مع عائلتها نهاية السبعينات مثلما قالت ، وبعد سقوط النظام بعامٍ او أكثر كانت زيارتها لبغداد التي لم تجدها كما تركتها، فخراب العقود الثلاثة بان على وجه المدينة التي تجعد وجهها وطُمست كل معالم الجمال فيه. ام سيروان عادت بعد أربعة أعوام بزيارة ثانية لمتابعة سير معاملة لتجد ان التجاعيد زادت على وجه المدينة، لتكون زيارتها الثالثة قبل ايام والتي شكلت صدمة لها، فقد تحولت تلك التجاعيد الى تشويه بمشرط متعمد او جاهل عبث بوجه المدينة وافقدها ذاك البريق التأريخي والتراثي والاجتماعي.
حضور الفوضى
عن واحدة من اكبر مدن بغداد وأكثرها حركة ، مدينة الصدر "الثورة" ، يقول المدرس حسين محمد شريف: في واحدة من أكثر مدن العاصمة بغداد اكتظاظا بالسكان ربما تصلح نظرية غوندليزا رايس "الفوضى الخلاقة" مدخلا لفهم ما يجري من غياب تام للنظام على كافة الصعد تقريبا . فبدءا من تصميم العلبة التي تميزت بها المدينة مرورا بتردي الخدمات وانتهاء ليس بآخر الأشياء سوءا ، غياب النظام وسيادة الفوضى. ويضيف شريف: ان الضاحية الشرقية من بغداد إذا جاز تحديث اسم المكان لهي من أكثر مدن العاصمة إغراقا بتجاهل السلطات المحلية لها. ويتضح ذلك جليا قبل وبُعيد التغيير النيساني 2003 حيث صارت الشوارع الفاصلة بين الأسواق الشعبية امتدادا جغرافيا للأسواق ذاتها، حتى اتسعت وصولا الى البيوت، الأمر الذي أدى الى إنهاء خدمات الشوارع ( سوق الحي، سوق مريدي، سوق الكيارة، سوق العورة، وسوق الداخل او عريبة).
ولم تختلف المدينة عن بقية مناطق بغداد بالمشترك الأكبر ، النفايات وسوء الخدمات ، اذ يؤكد شريف: يترافق ذلك مع كم النفايات الآخذ بالتصاعد لوغاريتميا دون مبالاة من احد.
ويبين الأستاذ حسين محمد شريف وجود مستشفيين فقط وهما "الإمام علي – الجوادر" و"الشهيد الصدر- الداخل" وهما لا يفيان بالحاجة الفعلية للسكان ، ناهيك عن ضعف الخدمات الطبية وصرف الدواء الرديء مترافقا مع سوء تعامل الأطباء والممرضين مع المرضى. مضيفا: مع مشكلة النقص الكبير في المدارس لا سيما مع حملة إعادة بنائها والتعثر الكبير في تلك المشاريع التي أفضت الى هدم الأبنية ليتم إلحاق المدارس المراد إعادة بنائها بمدارس أخرى ما تسبب بوضع معقد عبر وجود مدارس بدوام ثلاثي متعكز أساسا على قدم واحدة وعرجاء.
ثورة 1958 وعاصمة الثقافة
الأمر لم يتوقف عند ما ذكر آنفاً حيث أوضح شريف: ليست أكثر المشاهدات سوءا ظاهرة المخالفات الصحية حيث توجد معامل مصغرة داخل البيوت للحلوى والتعليب وتصنيع الأغذية بطريقة بدائية وكذلك معامل لتنقية المياه . هذه كلها تعمل خارج أية ضوابط صحية بالتأكيد . مثل هذه الفوضى الراسخة ليس لها إلا ان تقوض أسس الحياة في مدينة الثورة التي لا يتجاوز عمرها عقودا أريد لها ان تكون نموذجا للجمهورية الخالدة إبان ثورة 1958. مؤكدا: ان مدينة مثل الثورة وهي ترزح تحت شتى أنواع التجاهل والتجهيل لهي جديرة بالانحدار أكثر وأكثر في ظل تنامي السرقات والنهب الحكومي ولا يمكن الانتظار ابعد من هذا الوقت لنرى الصورة المقلوبة في عاصمة الثقافة التي وزعت تحت عنوانها الأموال الى جيوب الفاسدين ، وكان من باب أولى إعادة ترتيب الحياة فيها لئلا تُمنح الذريعة باللجوء الى ممارسات العنف كما هو حاصل اليوم . عاصمة الثقافة العربية أفقرت سكانها من الوعي النقدي في الوقت الذي أثرتْ جيوب المنتفعين من مادتها البشرية الخام لتوصلهم الى الغياب والفوضى.
من ميزات العاصمة بغداد ان اغلب مناطقها وأحيائها تتشابه بحكايا التهميش والخراب جراء عدة أسباب. قد تكون فترة النظام السابق وحروبه العبثية من أوائل الأسباب، وتأتي بعدها المحاصصة التي افرزها التغيير النيساني مع غياب الرؤى والتخطيط المطلوب والعلمي من قبل مؤسسات الدولة جميعها التي اكتفى مسؤولوها بالتسابق من أجل زيادة أرصدتهم وأرصدة أحزابهم التي تحول كل مؤسسة او وزارة الى إقطاعية حزبية.
هياكل وجرائم
الطالب الجامعي (علي عبد الزهرة) يتحدث عن منطقة سكنه ، حي السفير، الذي يقع بين العبيدي والشماعية قائلا: لعل البداية في الحديث عن مثل هذه المنطقة يكون شبيها بها من حيث التشعب والتشتت، فلا يعرف لها طريق سوى المتاهة.. تلك المتاهة التي تعد بيئة آمنة لجميع الأنشطة المشبوهة حيث تجارة الممنوعات والأسلحة. مضيفا :هناك توازن فريد من نوعه في منطقة حي السفير ومثيلاتها من مدن وأحياء شرقي القناة، فغياب الخدمات ومجاري الصرف الصحي والمياه الصالحة للشرب وتراكم النفايات التي باتت مصدرا أوّلا للأوبئة والأمراض التي تفتك بأبناء الحي، يقابله الحضور القوي في "هياكل البناء" التي اغلبها تجاوز ، حيث تحولت المنطقة لتجارة السلاح وفوضى حمله، ومخابئ لكل شيء يحتاج الى مخبأ.
وبيّن عبد الزهرة: شهدت المنطقة أكثر من مشكلة عشائرية تباينت أسبابها ومخلفاتها من القتلى والجرحى. ناهيك عن عدد الأشخاص الذين اختطفوا واغلبهم من الشباب. وبالطبع تكون الهياكل خير أمكنة او مخابئ لهذه الجرائم التي تنتهي بدفع فدية، كانت السبب في خلافات أخرى بين أفراد العصابة او الشركاء في الجريمة، الذين يمتهنون تجارة الحبوب المخدرة التي أخذت تفتك بالشباب الحي الباحث عن العمل بدون جدوى . أما اجتماعيا، فالحي خليط غير متجانس وفدت إليه العوائل من مناطق متباعدة ومختلفة بيئيا وأخلاقيا ولأسباب عدة ربما يكون الوضع الاقتصادي السبب الاول بذلك اضافة الى الوضع الأمني غير المستقر.
الذبح العشوائي
الموظف في وزارة التجارة السيد (هشام منصور) من سكنة نواب الضباط الأمين يقول :الملاحظة الأولى في مدخل منطقة نواب ضباط الأمين وجود القصابين ومواشيهم في أماكن متقاربة قد تصل الى اكثر من خمسة عشر موقعا . وهذا يؤدي الى تشويه صورة وجمالية المنطقة وسط سكوت وتجاهل الجهات المختصة. مشيرا الى تكدس الفضلات الناتجة عن عملية الذبح وانبعاث روائحها الكريهة إلى المساكن القريبة وحتى المارين بقربها. هناك مظلات انتظار واستراحة تم إنشاؤها من قبل أمانة بغداد على الأرصفة ، ونتيجة للانفجارات والعبث من قبل بعض الناس فقدت الكثير من اجزائها وجماليتها وتركت دون إدامة او متابعة من قبل أمانة العاصمة ودوائرها المختصة.
وها هو القاسم المشترك بين أحياء وأزقة بغداد متمثلا بتقطيع البيوت اذ يقول منصور عن ذلك : عند بناء الاضافات في البيوت او تقطيعها الى مشتملات، يتم تكديس مواد البناء في الشارع وعلى الرصيف ما يؤدي الى عرقلة مرور السيارات والسابلة، وهذا الأمر يحدث أمام مرأى ومسمع جهات البلدية. والمطلوب فرض غرامات على مرتكبي هذه المخالفات من قبل أقسام البلدية وبدون محاباة وكما كان معمول به سابقا.
فارزة
في احد اللقاءات التلفزيونية مع السيد أمين العاصمة بالوكالة نعيم عبعوب ذكر ان بغداد جميلة ولايعوزها إلا القليل من المكياج، ترى اي ماركة مكياج عالمية وأي مركز تجميل وخبير او خبيرة تجميل يمكنها ان تضع تلك اللمسات ليكتمل جمال بغداد حسب رؤية السيد الأمين والذي حمل المواطن ذات مرة مسؤولية تراكم النفايات والأزبال في المناطق والأحياء السكنية وهو مصيب في ذلك بعض الشئ ، فأين يرمي المواطن الأوساخ والآزبال إن لم تأت سيارة الأمانة بشكل مستمر او توفير حاويات كبيرة مثلما كان في فترات سابقة.
بغداد الأن قرية بشكل مدينة، فلا يغرّنّ أحداً وجود البنايات الفارهة الملونة بالزجاج او مايعرف بالليكوبوند فهذ اجزء من الخراب الذوقي في البناء والأعمار. بغداد تعاني من نقص تام وكامل في تقديم الخدمات الضرورية من ماء وكهرباء ومجاري تصريف مياه الامطار، انارة الشوارع، الحدائق والمتنزهات والاماكن الترفيهية العامة. وليس انتهاء بتنظيم السكن والبناء والقضاء على ازمة السكن التي حولت المدينة الى مايشبه العلب المعدنية.
مقالات اخرى للكاتب