إذا سقطت معايير السياسة فهذا لا يعني سقوط معايير الثقافة. الدولة العباسية ارتفعت فيها المعايير الثقافية عندما سقطت المعايير السياسية. ظهر لنا المتنبي، والمعري، والبحتري، وأبو تمام، والجاحظ، والتوحيدي، والكندي. مثلما ظهر أهل اللغة، وأساطين الفلسفة والكلام.
حتى في عصر المماليك لم تسقط المعايير الإنسانية والثقافية. ظهر لنا البوصيري، وابن نباتة، وصفي الدين الحلي.
اليوم سقطت المعايّير السياسية والثقافية والإنسانية معاً. دخلنا في الانحطاط الحضاري طبقاً لابن خلدون.
وإذا كانت الأمم العظيمة تتذكر لكي تحيا، فإن الذاكرة لدينا تعني إعادة إنتاج الماضي بطريقة الفتنة، أو بدرجة من درجات القتل.
لم يعد غريباً أن يُخرجوا الطبري من قبره في هذه الأيام، ليحاكموه على كتابه (الأمم والملوك) ويعلقوه في حبل مشنقة، ولا من الغريب أن يصادروا رأس الجاحظ، أو يحبسوا ابن الأثير، أو يحرقوا مخطوطات المسعودي.
فكلّ شيء مباح ومستباح، ما دام مدوّن التاريخ يكتب لحساب المال والسياسة، متعللاً بقصيدة لمعروف الرصافي يقول في بيت من أبياتها، إن جميع كتب التاريخ حديث من الخرافة والتلفيق!
ويوماً ألقينا القبض على ابن خلدون متسللاً إلى سوق السراي في دكاكين الوراقين، متلبّساً بالجرم المشهود في كتابه (المقدّمة) بتهمة كتابة أفكار تهدد الأمن القومي، فأودعناه وكتابه السجن حتى حين!
لم تعد لكتابة التاريخ قدسيّة. لا في منهج دراسي، ولا في رسالة دكتوراه، ولا في كتاب، ولا في مقال، ولا في دراما، ولا في حديث عابر.
ونحن نعلم أن إعادة كتابة التاريخ بدعة يخترعها الطغاة والمتجبّرون، كلما أرادوا التزوير والاحتيال.
مخجل جداً أن تتعالى أصوات تقسيم التاريخ في المناهج الدراسية على نحو طائفي كريه بالصفحة، وبالجملة، وبالكلمة، وبالحرف، وبالنقطة، وبالفارزة، وبعلامة الاستفهام، وبإشارة التعجب.
الطائفيون لم يكتفوا أنهم تقاسموا كل شيء في العراق. الهواء، والماء، والسماء، لكنهم يطالبون بتقاسم كل صفحة في كتب التاريخ، ويجري هذا في مناهج التلاميذ في المدرسة الواحدة، وفي المرحلة الواحدة، ويشهد الله الواحد.
تذكرت قصة اللورد البريطاني (أوليفر كرومويل) أشهر قادة الحرب الأهلية. كان قائد أول ثورة في أوربا ضد الملكية وإعلان الجمهورية. وعندما دارت السنين ومات كرومويل، وعادت الملكية إلى انكلترا مرة أخرى، أصرّ ابن الملك العائد إلى العرش، على تنفيذ حكم الإعدام في (كرومويل) الميت. وبأمر من الملك الجديد حفروا قبره، وأخرجوا هيكله العظمي من تحت التراب، وعلقوه في ميدان عام من حبل مشنقة. إنها عفونة التاريخ.
مقالات اخرى للكاتب