كما يقولها الباحثون في افتتاح الأطروحات العلمية " مشكلة البحث"، نعم هكذا بدأت معي المشكلة، حينما كنت موشحاً بالعلم العراقي، مرتدياً نظارتي الشمسية، متجهاً الى ساحة التظاهر في النجف. حتى قابلني "الحاج مزهر" متسائلا عن وجهتي أين ذاهب؟ فسارعت بالإجابة " ذاهب الى التظاهرة يا "حاج". فأستغرب قائلا: أنت تصلي؟ إنا أعرفك ملتزماً ولست كذلك؛ هؤلاء ينددون بالدين ويسعون الى إقامة نظام علماني، لا ديني جميعهم شيوعية! فتبسمت وقلت حين عودتي سنتكلم.
ليس الحاج مزهر وحده، معتقداً بهذا. بل كثير من المعارف أيضا. وخصوصا بعد الدعوات التي انطلقت من المتظاهرين، والحنين الى النظام الرئاسي بل حتى الملكي أيضا، ورفع الشعارات التي رفضت نظام الحكم الديني في العراق. نحن نعلم هذا التضارب والجمع بين الأضداد ليس غريبا او وليد اللحظة، لذا سننطلق سوية في استعراض إشكالية اختيار النظام. والمضي جولة حول الدولة المدنية والدينية باختلاف الميم طبعاً! وسيكون حديثاً كالأتي:
إشكالية اختيار النظام.
لا يخفى على المتصفح لتاريخ العراق السياسي القريب، إن أكثر الخلافات المتتالية بعد الثورات الداخلية منذ عام 1958 وحتى 2003. تدور حول كيفية اختيار شكل الدولة، وأسلوب إدارتها. ويعود السبب الى تنوع التيارات الفكرية آنذاك، المتواجدة في الساحة السياسية والثقافية. فالقوميون كانوا يرون العراق مستقلا عن الامبريالية، ولن يصبح ضحية ألاعيب الاستعمار، بينما يرون أصحاب التيار الوطني غير ذلك، فلابد للبلد ان يكون مؤمما من الاستغلال والنفوذ الأجنبي بأي طريقة كانت النفط والسياحة والجيش ملكاً للشعب. ثم جاء الشيوعيون بالفكر الاشتراكي، والقضاء على الاقطاع ونبذ الرأسمالية. لكن البعثيون أصحاب الفكر القومي-الاشتراكي، قالوا ان العراق عربي قومي مشترك في الخيرات مع جيرانه فإذا جاعت فلسطين لابد للسودان ان تطعمها!.
اما الإسلاميون البعيدين عن الصراع السياسي، لم تكن لهم الجرأة في طرح نظرات الدولة، بسبب هيمنة الدين الغير مفهوم لديهم، والمتراكم من النصوص الشريفة والأحاديث والسنة. فتارة جهاد وتارة سلام وحفظ الدماء. وبسبب التخبط هذا، حاولوا الحفاظ على المنظومة العقائدية فقط، ومحاربة كل التيارات التي تختلف مع الإسلام بمفاهيمه ونصوصه. حتى وقعوا ضحية الخلاف الدائر بين المعسكر الغربي والشرقي. وحصل الصدام بين الشيوعية والإسلام بتحريض من الرأسمالية الغربية، حيث طرح الشيوعيون الفكر الاشتراكي الذي لا يلاءم المشروع الغربي الرأسمالي، فذهب الشيوعيون الى الزنازين ومقاصل الإعدام وركب الإسلاميون، سفينة الرأسمالية دون ان يشعروا حتى أصبح رجل الدين يركب المرسيدس الألمانية والعباءة الإيرانية، والمسبحة الصينية ويشاهد التلفاز الفرنسي، ويأكل في آواني تايوانية الصنع لكن يرفضون العولمة، ولا يعرفون ما هي!
معارضو الخارج بين السياسة والدين.
حينما فرض البعث نفوذه في العراق بعد عام 1963 وتخلص من الشيوعية، بمعاونة الإسلاميون، وحمل الفكر القومي مناهضة لليبرالية، اصطدم ثانية مع الإسلاميون أنفسهم. فمشروع الأمة الإسلامية الذي يحلم به دعاة السلف الصالح، لن يقابل باستحسان من قبل القوميون العرب، فلا مؤاخاة مع العجم على حساب الإسلام، بل التوجه الى أخي الليبي والمصري أفضل و"بلاد العرب أوطاني من بغداد الى الشام".
وصولا الى الاصطدام العقائدي بين البعثيون والإسلاميون عام 1977 وانتفاضة صفر، وخصوصا المكون الشيعي، ومن هنا بدأت مرحلة المعارضة لكن أي معارضة؟ للرجوع الى جميع المعارضين أصحاب مؤتمرات لندن والكويت، جميعهم كانوا معارضة عقائدية وليست سياسية! فالمعارضة السياسية كمفهوم أكاديمي، لابد من وجود مشروع سياسي مختلف مع النظام القائم ويرونه هو الأفضل لتطبيقه. فكيف وهم لا يمتلكون برنامج سياسي؟ حتى ظل الوضع متأزماً بين طرح ولاية الفقيه كنظام سياسي، او الرجوع الى دولة التمهيد للإمام المنتظر(عج).
لذا كان أول الغيث بعد 2003 وصول المعارضة الى السلطة، كانت العقيدة هي أولى المتطلبات للنظام الجديد، والسعي لإقامة دستور يضم الحرية الدينية. فنحن معارضون سياسيون لكننا عقائديون! وكأن بناء الدولة يكمن في مجالس العزاء الحسينية. وحينما تبنت هذه المعارضة الفكر الديني، وليس السياسي. أصبح من يعارضهم يعارض الدين. وهي عودة للثيروقراطية ،التي عانت منها أوربا أبان حكم الكنيسة وأصبح رجل السياسة ذات المشروع الديني مخالفته مخالفة لله سبحانه وتعالى.
الدولة المدنية.. شركٌ بمعزل دينية الدولة؟
كثر الحديث عن "الدولة المدنية"، فبعض الكتاب اعتبر أن "الدولة المدنية" تقابل "الدولة العسكرية"، لكن الحقيقة أن هذا المصطلح أوروبي وجاء في مقابل "الدولة الكنسية"، وهو قد جاء نتيجة تطورات غربية في القرون الوسطى في مجال الاجتماع والاقتصاد والسياسة... إلخ، وحتى نستطيع أن ندرك محتواه بصورة دقيقة علينا أن نرصد صورة المجتمع الأوروبي في العصور الوسطى، ثم نرصد صورته بعد الثورات الصناعية والاجتماعية والسياسية، أو التي كونت العصر الحديث في أوروبا بعد الثورة الفرنسية.
الدولة المدنية هي: دولة القانون هكذا هي عندنا ببساطة وبالتالي فهي ليست دولة رئيس الوزراء ولا دولة رئيس الجمهورية أو الملك، ونريد هنا التأكيد على الطبيعة الموضوعية لتلك الدولة التي تؤسسُ على قاعدة الفصل بين السلطات الثلاث، الفصل بمعناه الحقيقي وليس الاعتباري، والفصل هو المُكون الرئيسي لطبيعتها المادية وثقافتها المجتمعية.
يرى الإسلاميون ان المدنية هي عزل الإسلام عن إدارة الدولة وعودة الحكم" إلا ديني" والسبب في ذلك إبعاد رجل الدين عن إدارة الدولة وكأنه هو من يمثل الإسلام فقط. وهذا ليس بجديد فالوحدوية وعبادة الشخص والتقديس له عادة قبلية لم يتمكن الإسلام من نزعها بعيداً عنه وهم كذلك يوهمون الناس انهم لو رحلوا سيرحل الدين معهم فاحذروا..!
لا اعتقد وجود دولة إسلامية دستورها غير راجعاً للقرآن الكريم وهذا وحدة يضم " إسلامية الدولة" ورعاياها. وقد أكد مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر في بيان أن الإسلام لا يعرف ما يُسمى بالدولة الدينية، وأنه لا صحة للقول بأن تطبيق الإسلام يعني أن تكون الدولة دينية؛ حيث إن الإسلام لا يعرف إلا الدولة المدنية.كذلك يشير الدكتور عبد المعطي بيومي عضو مجمع البحوث الإسلامية إلى أن كل مَن يقول بأن الشريعة الإسلامية تتنافى مع الدولة المدنية لا يدرك أن الدولة الإسلامية في حقيقتها دولة مدنية، وأن الفقه الإسلامي في كثير من أحكامه فقه وضعي كالاجتهاد البشري، فهو كالقانون يتغير بتغير الحالات. ويضيف: إن الإسلام يقدِّم مبادئ إسلامية عامة متفق على هدايتها و إرشادها للعقول البشرية، وهي تضمن مسارات صحيحة للعقول في التشريع والاقتصاد والسياسة وفي كل الأمور.. والعقل الإنساني هو الذي يختار المصلحة ويحدد الحل في ضوء هذه المبادئ الكلية والنصوص القطعية، والمتفق بالطبع على أنها لا تأمر بضرر، ولا تشرع ضرراً.. لأن القاعدة الكلية: لا ضرر ولا ضرار.
اختلاف الميّم!
لعل القارئ الكريم بدأ وهو يقرأ المقالة هذه بالمقارنة بين كلمة " مدنية ودينية"، لا يجاد موقع حرف الميّم. ليس القصد هنا نحوياً بل معنوية يا سادة. اختلاف الميّم في عناوين مضمون الدولتين. من اين تنطلق الدولة المدنية؟ فهي كالآتي:
المواطنة: وترتبط عادة بحق العمل والإقامة والمشاركة السياسية في دولة ما، أو هي الانتماء إلى مجتمع واحد يضمه بشكل عام رابط اجتماعي وسياسي وثقافي موحد في دولة معينة. وتبعا لنظرية جان جاك روسو "العقد الاجتماعي" المواطن له حقوق إنسانية يجب أن تقدم إليه، وهو في نفس الوقت يحمل مجموعة من المسؤوليات الاجتماعية التي يلزم عليه تأديتها. لكن ما نراه في الدولة الدينية في العراق؟ المواطنة عند الإسلاميون هي ما مدى اعتناقك الإسلام؟ او إيمانك في الحزب القائم على السلطة. وهذا ما حصل في تجربة الأحزاب الدينية وإيقاعهم في شبك الطائفية كل حزب يتقاسم الوزارة على مؤيدوه طائفياً والابتعاد عن معايير الكفاءة.
مصدر السلطات: الشعب مصدر السلطات، فهو الذي يختار الحاكم وهو الذي يعزله، وهذا واضح غاية الوضوح في الدولة المدنية. اما الإسلامية " الثيروقراطية" فهي تعتمد على الحزب كمصدر للسلطة، والأحكام، ولك حزب له نظرياته الخاصة في ادارة الدولة تبعا للمدرسة الفكرية التي يتبناه هو.
المساءلة. لا قداسة للحاكم وهو لا يمثل خليفة لله تعالى على شعبه، وهو العنصر الأبرز والأخطر في تعريف دولة الإكليروس في عصور أوربا الوسطى. لكن أحزاب العراق استخدمت رموزها للتعبير عن الآلهة. فكل من حضي في الاستفسار من قبل المجتمع المدني، أصبح خارجاً عن القاعدة وغير مألوف. فارتداء زعيم الحزب اللباس الديني يضفي عليه القدسية. ولطالما القضاء تابعاً لجهة سياسية أخرى فأن تحرك عليهم عمل بمبدأ التسقيط والصراع.
وطن لا ذاكرة..
حتى نبني دولة مدنية مستقرة بعيدة عن الانتماء والاعتناق نحتاج الى إتلاف الذاكرة الدينية وخصوصا بين السنة والشيعة والعربية والكردية فحين تبقى الذاكرة الأليمة بين الشركاء وإعطاء فرصة للانتقام والتجاذب السياسي وفق نظام دولة دينية كل يرى فقه هو الأفضل والأصح في بناء الفكر السياسي للحكومة والدولة لا نستطيع بناء مدرسة واحدة للأجيال فنهالك حقد وثأر يتجاذب به السياسيون الذين يدعون " الدينية". لذا إيجاد الدولة المدنية بتعريفها الصحيح تضمن بناء دولة تطبيع مع العالم الحديث. فدعاة المدنية هم جيل جديد لم يفقه الصراعات المذهبية منذ القدم ولا يريد ان يتحمل تاريخ مضني يدفع فاتورته من دماء أصدقاءه ودموع أخواته.
مقالات اخرى للكاتب