لقد قيل في أوساط العامة أن الطغاة هم صنائع الشعوب، وهذه المقولة لا تخلو من جذور تاريخية وإن أرسلها الناس إرسال المسلمات وجعلها البعض في عداد العاديات، ومع أن صدقها المنطقي على الشعوب يتفاوت بين الكلية الموجبة والجزئية السالبة، وأن درجة انطباقها على شعب وشعب ليست واحدة، فبعض الشعوب تحتل مكان الصدارة في سلم صناعة الطغاة وبعضها الآخر ليس كذلك، إلا أن المحصلة النهائية هي (فعلية وجود شعوب صانعة لطغاتها). ومن تلك الشعوب شعبنا العراقي، فتاريخ هذا الشعب حافل بالمصنوعات الطاغوتية منذ أن صار المُلك عضوضاً بقدوم بني أمية وحَجَّاجهم حتى ختم طاغوت الأشرار (صدام) مسيرة الطواغيت الكبار، وآل الزمان بعده إلى حفنة من الطغاة الصغار...
ولكن قبل أن نسترسل في العموميات والكليات والجزئيات دعونا نتوقف قليلاً عند صواب أو عدم صواب هذه المقولة، فمن المؤكد أن (الحكم الكلي) بإستغراق افراد الموضوع غير صحيح، أو بعبارة أخرى: إن القول بأن كل الشعب العراقي بجميع افراده وفئاته محكوم عليه بأنه (صانع للطغاة) هو قول ليس بصادق، ولا يمكن قبوله ولو على علّاته، فعلى الأقل هنالك شريحة واحدة من بين جميع الشرائح الاجتماعية للشعب العراقي هي المعنية بمنطوق تلك القضية، وبصرف النظر عن حجم هذه الشريحة فإن شيوعها وتفشيها في النسيج الاجتماعي العراقي أمر لا يسع أحد إنكاره.
ولعل تشخيص هوية هذه الشريحة باعتبارها طبقة اجتماعية بالمفهوم السياسي أمر لا يخلو من مجازفة، فلا يصح أن يقال مثلاً أنها خصوص الطبقة الدنيا أو الوسطى أو العليا من طبقات المجتمع العراقي... ولكنها في الواقع شريحة ملفقة من جميع تلك الطبقات. إنها بإيجاز شريحة (المتملقين)، ويسهل التعرف عليهم لما يجمعهم من خصال مشتركة، منها: النفعية، وصغر النفس، وخور الهمة، والجبن... ونحو ذلك. ولو رجعنا إلى الأسباب الكامنة وراء شيوع هذه الشريحة في اوساط المجتمع وطبقاته لألفينا أنفسنا نخوض في مضمار علميْ السوسيولوجيا والانثروبولوجيا بكل ما فيهما من تحليلات إحصائية وسايكولوجية ولغوية واثنية وثقافية... وسنخرج حينئذٍ عن حدود المقال المنمق إلى مستوى البحث المعمق. ولذلك نؤثر ألّا نخرج إلى تلكم الأسباب التي أفرزت ظهور هذه الشريحة بشكل سافر في اوساط الشعب العراقي، ونختار عوضاً عن ذلك؛ التعامل مع الموضوع من جهة (ظاهراتية)، ويكفي في هذا السياق أن نشير إلى أن ظاهرة (التملق) فيها جنبة أخلاقية مؤسسة لإشكالية حضارية كبرى، وأن الحد من هذه الظاهرة لا يتأتى من دون (رقابة) شعبية، ولا يؤتي ثماره بلا مقاربة نقدية جدّية بمعزل عن أي خوف أو وجل، فمسؤولية الشعب هنا هي أن يراقب وأن ينصح أولئك المتملقين بالرفق والموعظة الحسنة حتى تحصل فيهم استعدادات للإقلاع عما درجوا عليه واعتادوه، وتقع المسؤولية الكبرى على عاتق أصحاب الأقلام من المفكرين والإعلاميين والمصلحين الاجتماعيين كيما يفجروا من التربة المستصلحة رقابياً في ارض الاستعداد ينبوع التغيير الرادع عن مواصلة السير في ذلك النهج الأعوج، وحصة النقّاد من تلك المسؤولية عظيمة، فإن النقد إصلاح وإيضاح وليس هتكاً أو تشهيراُ بالقدح والإفضاح.