لغة ، تعني التفضيل وقد وردت بهذا المعنى في القرآن الكريم : ولقد كرمنا بني آدم .... وفضلناهم على كثير ... وهناك شبه اجماع على ان التكريم هنا هو العقل ولولاه لتساوى ستيف جوبز وابو عمر البغدادي ، ولاصبح المهرج المسرحي عباس جيجان كفء الخالد الذكر المتنبي . ولم يفلت هذا المعنى من مخيلة ابي الطيب فتناوله بذكائه الخارق بابهى ما يكون : لو لا العقول لكان ادنى ضيغم ... ادنى الى شرف من الانسان ِ ، وهو من عجائب وغرائب ابن الكوفة الحمراء . عشت في اربع بلدان اثنان عربيان ، و آخران اعجميان فلم اجد فيها - رغم متابعتي اللصيقة - امتهانا لمعنى " التكريم " كالذي يجري في العراق منذ نحو عشر سنوات . هل لذاك علاقة بصدام التكريتي و فترة حكمه المقيت ؟ لا ادري بالضبط ولكنني ادري بان انفلات الامور في كل شيء عن عقالها بعد سقوط حكم القرية عام ٢٠٠٣ اصاب معنى التكريم بالمقتل فاصبح المكرمون اكثر عددا من سواهم فتهاوت هذه القيمة العليا الى الحضيض . يكاد لا يمر يوم الا ونسمع عن حفل تكريم يقيمه الاستاذ فلان الفلاني للمبدع علان العلتاني او مجموعة من العلانيين العلتانيين . وليت شعري من هو هذا الاستاذ المكرِّم ومن هو المبدع المكرَم وماهو حقل ابداعه ؟... لا احد يدري . لكننا اعتدنا على مشاهدة الاثنين في صورة فتوغرافية لحظة تسليم الدرع الفخري الذي لا تتجاوز قيمته ستة الاف دينار عراقي "خمسة دولارات امبريالية" . قبل سنتين او ثلاث اصطحبت صديقا لحفل اقيم تكريما لابداعه عن استحقاق . في العودة الى البيت وجدت الدرع ملقى على ارضية السيارة امام الكراسي الخلفية . سارعت الى الاتصال بصاحبنا لطمأنته بان كل شيء على ما يرام وان درع التكريم على حاله لم يمسسه سوء ، ففوجئت انه يطلب مني رميه في اقرب سله لانه لا يساوي ثمن وقود السيارة الذي استهلكناه ذهابا وايابا ، لانه - حسب صاحبي - يمكن ان يقدم لاي شخص و ليس فيه خصوصية . في العراق اليوم ومنذ عقد تقريبا يستطيع اي عتال في سوق الشورجة ان يقيم حفل تكريم بهيجا ، مع شديد احترامي لهذه المهنة الشريفة . واي غرفة في البيت يمكن ان تكون صالة لحفل التكريم . وتكفي عدسة موبايل غالاكسي لتوثيق الحدث بصورة تاريخية وتوزيعها على الصحف . التكريم في العالم المتحضر امر اخر فهو مسؤولية مشتركة يتقاسمها الفاعل والمفعول معا وتفاتح فيه السلطات المحلية على اقل تقدير ، والامر ينطوي على مغامرة كبيرة قد تطيح بتاريخ احدهما او كليهما معا لو شم منها رائحة للتواطؤ او التضليل . لعل الكثير منكم يعرف ان ولاية ماسوشوستس الاميركية الصغيرة هي عبارة عن مدينة جامعية بامتياز وحسبها ان هارفارد منها . في هذه الولاية يوجد نحو ستمئة مؤسسة علمية يتنافس العلماء والطلاب من الشرق والغرب على شرف الانتساب اليها معلمين او متعلمين فهي المنطقة الأولى في العالم من حيث عدد مؤسسات التعليم العالي . مجموع من تكرمهم هذه المؤسسات العملاقة عدة وعددا لا يتجاوز العشرة سنويا وهم في الغالب ممن حصلوا على جوائز نوبل او ممن هم مرشحون لنيل هذه الجائزة او من هم بمستواهم تقريبا من حيث الانجازات الفكرية او البحثية . وهذا التكريم كله مرتبط بالعقل الذي فضلنا الله به على سائر مخلوقاته ، فاحتقرناه وجعلناه اسفل سافلين . لماذا اذن نتنافخ شرفا عندما تصنفنا مؤسسات دولية باعتبارنا ثاني افسد بلد في العالم بعد الصومال الذي تحكمه عصابات خطف السفن ؟ وغاية ما نفعله غداة التصنيف اتهام تلك المؤسسات بالكيدية والتآمر على شعب تمتد حضارته الى ستة الاف سنة في عمق التاريخ . هذا ما نجيده فقط . اما اصلاح الذات واستخدام العقل - آية الله العظمى - و التفتيش عن الخلل الداخلي فهي امور مؤجلة الى اشعار اخر ، اي بعد ان يتعب سكان البلد من تنظيم حفلات التكريم الكاذبة ، وهو امد - لعمري - بعيد ، وبعيد جدا .
مقالات اخرى للكاتب