إن من أسوأ الأمور أن يصبح رجل الدين الذي يفترض أنه داعية تسامح وهداية وسلام، خصوصا حين يكون مرجعا مهما لملايين المقلدين والأتباع، داعية ومشجعا ومشرعا للكراهية والعدوان وسفك الدماء وهتك الأعراض واغتصاب الحرائر ونهب الأموال وتهجير الآمنين.
فقد بشرنا نائب الرئيس الإيراني إسحاق جهانغيري، عقب اجتماعه في النجف مع المرجع الشيعي الاعلى آية الله السيد علي السيستاني، بأن المرجع شدد على ضرورة تعزيز التعاون السياسي والأمني والاقتصادي بين العراق وإيران، خاصة مع انخفاض اسعار النفط. وأوضح أنه بحث مع المرجع العلاقات الثنائية.
ورغم أن السيد السيستاني مرجع ديني لا رئيس جمهورية ولا رئيس وزراء ولا رئيس برلمان ولا وزير خارجية أو داخلية أو نفط أو مالية فقد "بحث مع جهانغيري العلاقات الثنائية والاوضاع السياسية والأمنية، مبينًا أن الاتفاقيات التي عقدت بين العراق وإيران ستُحدث نقلة نوعية في العلاقات بين بغداد وطهران" حسب تصريح نائب الرئيس الإيراني.
طبعا لم يطلب أي عراقي وطني نزيه وشريف أن تكون العلاقات العراقية الإيرانية مغمسة بالدم والنار والحديد. فالواقع الذي لا مهرب من حكمه أن لجماهير الشعبين مصالح متبادلة متشابكة لا تنفصم، وأواصر قربى ومصاهرة ثابتة وراسخة، مهما تكن العلاقة بين حكام البلدين.
فحين كانت تمر على العراقيين والإيرانيين فتراتُ صحوٍ قصيرة يجود بها الحكام المسكونون بالشر والمشاكسة كانت جموع غفيرة من الشعبين تعبر الحدود، كل يوم، زيارة أو تجارة، دون تأشيرات دخول، ولا قيود ولا حدود. وكثيرٌ من أهالي البصرة يعبرون شط العرب يسهرون في إيران ويعودون آخر الليل. ومطربون عرب عراقيون يُضمنون أغانيهَم عباراتٍ فارسية دون خوف، ومذيعون وموسيقيون ومهندسون في إذاعة الدولة
العراقية إيرانيون يحملون الجنسية الإيرانية ويعيشون بيننا ويعملون معنا براحة بال ورضا وأمان.
إلا أن العراق كان دائما، ومنذ سقوط الدولة العباسية، يتلقى طعنات مسمومة غادرة في ظهره من الجارة إيران، في كل مرة يتولى فيها السلطة حاكم متجبر مملوؤ بالعنجهية القومية المغطاة بالدين والطائفة مندفع لفرض هيمنته على العراق، وإذلال العراقيين.
ومن سوء حظ العراق أنه محكوم بجيرته مع إيران الفارسية لا يستطيع حمل أغراضه ويرحل بعيدا عنها، ولا هي تفعل معروفا فتنتقل عنه بعيدا في بلاد الله الواسعة.
وحين قام جورج بوش الإبن بغزو العراق وأسقط نظام صدام لم تتخلص إيران من أقوى خصومها فقط، بل سارعت إلى استثمار الواقعة بأقصى حدودها المتاحة وغير المتاحة أيضا، لتحقيق الحلم المؤجل العزيز. وأول ما فعلته أن قامت بتصحيح أخطائها السابقة التي ارتكبتها في انتفاضة عام 1991، ولجأت إلى سياسة النفَس الطويل، هذه المرة، واستخدمت المراوغة والتقية مع الأميركان، (أقول لك ما تحب، ولكنني أفعلُ ما أُحب) للوصول إلى هدفها المنشود، وهو احتلال العراق، تحت ظروف الاحتلال الأميركي وحالة الفلتان والفوضى التي أشاعها.
وحين هبط بول بريمر على أرض بغداد المغتصبة حاصرته إيران بحلفائها العراقيين، ثم صار السيد السيستاني مهندس العراق الجديد، لا يستغني بريمر عن هدايته وتجيهاته الغالية. وشيئا فشيئا، إلى أن سقط الوطن كله في أحضانه مستسلما يطلب منه الرحمة ويلتمس الأمان.
حتى تحول قادة العراق الديمقراطي الجديد إلى زوار دائمين لأعتاب السيد السيستاني يطلبون منه القول الفصل في كل صغيرة وكبيرة من شؤون الدولة والحكم وتصريف الأعمال.
بعبارة أصح وأكثر وضوحا، وبدون مجاملات، إن جزءا كبيرا من مصائب العراق اليوم هي من زراعة السيد السيستاني نفسه دون سواه. فهو الذي بارك المحاصصة الطائفية، وهو الذي أمر بالدستور المسلوق على عجل، وهو الذي سلط القطعان الجائعة على أموالنا وأعراضنا وأروحنا، رغم أنه
يعلم قبل غيره، وأكثر من غير، بأنهم سيفسدون الأرض ومن عليها، ويسرقون الكحل من عيون العراقيين، وسيخوضون خوضا في الدم الزكي البربيء. ولكنه أمر، وأمرُه لا يُرد.
لم يسمع أحد منه كلمة اعتراض واحدة وهو يرى إيران، مع أول قذيفة أطلقها الاحتلال الأميركي من خارج الحدود، وقبل نزول جنوده على أرض العراق، تضخ المئات من المسلحين من عناصر الحرس الثوري وفيلق القدس و(مجاهدي) مليشياتها العراقية الطائفية، بهيئة معارضين عراقيين عائدين من منفاهم الإيراني إلى الوطن لمحاربة القاعدة والإرهاب.
لم يعترض السيد السيستاني على ما كانت تفعله سفارة إيران في العراق وهي تدوس على السيادة والكرامة كل صباح ومساء، وتفرض وكلاءها من قادة الأحزاب والمليشيات الشيعية العراقية على مفاصل الدولة الجديدة، وخصوصا على الجيش والشرطة الأمن والمخابرات، وتقول للرئيس العراي والوزير والخفير ماذا يفعل وماذا يقول، بل بارك جهودها (الخيرة) هذه، وأوعز بتنصيب عملائها وخدمها وزراء ونوابا وقادة جيوش.
ولتأمين نفقات هذه العمليات المتعددة المكلفة فقد استحدثت المخابرات الإيرانية في العراق عشرات المؤسسات والشركات الحقيقية والوهمية تحت غطاء البناء وإعمار المراقد المقدسة ونقل الزوار الايرانين والمجال الصحي والهندسي والثقافي. ويقدر عددها حاليا باكثر من 300 شركة كبيرة ومتوسطة وصغيرة تدار من قبل قوة القدس وباشراف مباشر من قبل قاسم سليماني وساعده الأيمن والأيسر هادي العامري، ولم يقل عنها السيد السيستاني أي شيء.
واليوم، وبعد كل هذا الخراب والظلم والفساد والفصل العنصري والطائفي في العراق، وبعد دخول آلاف الضباط والجنود الإيرانيين، وآلاف المسلحين العراقيين ذوي الولاء الإيراني الثابت المفضوح، ورغم جميع تقارير الدنيا عن جرائم الحرب الهمجية التي يرتكبونها في المدن والقرى غير الموالية لإيران، والتي لا تقل عن همجية داعش والقاعدة، لم يشعر السيد السيتساني براحة بال. فهو يرى أن كل ما تحقق من هيمنة إيرانية على دولة العراق وأهلها وثرواتها
وكرامتها لا يكفي، بل يريد لها المزيد من القوة والسلطنة والملكوت. اللهم لا أسألك رد القضاء، ولكن أسألك اللطف فيه.
مقالات اخرى للكاتب