عرف العراق أثناء حرب الكويت وما بعدها مصطلح "شيوخ التسعينات"، وقد شاع هذا المصطلح ليميز هؤلاء عن الشيوخ الحقيقيين.. وكانت الناس تتفرج على شيوخ "التسعينات" وهم يتحولون الى مخبرين على أبناء جلدتهم.. وكيف كان الواحد منهم يتباهى بأنه ارتجل "هوسة" في حضرة القائد الضرورة ليكافأ بخمس "عفيات" مليونية.. وتحول الكثير منهم الى حيتان يركبون احدث السيارات ويرتادون افخر المطاعم، وشكل النظام آنذاك مكتباً للعشائر كان يشرف عليه " روكان رزوقي " مهمته منح تراخيص لممارسة مهنة "شيخ" حكومي.
هذه الأيام عاد "شيوخ التسعينات" بأوصاف والقاب جديدة.. شاهدنا وجوههم الكالحة، يوم قرر الفريق قاسم عطا ان ينقلهم بباصات الحكومة ليشوشوا بأصواتهم على روعة تظاهرات الشباب في ساحة التحرير.. مجموعة من المنتفعين والانتهازيين ومروجي الأكاذيب والراقصين على كل الحبال، ومن ثم ليس غريبا أن نجدهم يخرجون علينا كل يوم " بحكاية " جديدة عن دعم الحكومة ومحاربة " الشباب المنحرفين ".
شيوخ التسعينات وبعد سنوات من الهتاف "بحياة قائد النصر والسلام".. بعد حفلات "الردح" فرحاً بأم المعارك، انقلبوا ليغيروا العرض، لنجدهم اليوم يهتفون للدين والأخلاق والفضيلة وبصوت واحد "بالروح بالدم نفديك يا أخلاق".. بسرعة البرق انقلب شيوخ "الدمج" فجأة ليستبدلوا صور صدام بلافتات "الحشمة ودولة الفضيلة"!
هكذا وجدنا من يريد ان يصور للناس ان معركتهم الحقيقية ليست في إصلاح النظام السياسي، ومحاربة الفساد ومطاردة السراق، ومعالجة التدهور الأمني، وإقامة مجتمع العدالة الاجتماعية، وإنما قضيتنا المصيرية لا تتعدى مسألة منع " المقاهي " ومطاردة اصحابها.. شيوخ التسعينات لا يزالون يهتفون للكرسي.. أياً كان الجالس عليه.. فنحن وبفضل السادة الوجهاء انتهينا من بناء نظام سياسي غير طائفي لنتفرغ لمعركة تحرير بغداد من اصحاب " الكافتريات "، ولا يهم ان يهان الناس في الشوارع وتسرق أموالهم وتخرَّب ممتلكاتهم.. فالحكومة ومعها " شيوخ الدمج " يريدون إقامة مجتمع السمع والطاعة، بديلا عن مجتمع المواطنة والحريات.. ولهذا فمشهد الهجوم " البربري " على مقاهي الكرادة، يعيد مشاهد قديمة قامت بها قوات الحكومة على النوادي الاجتماعية والجمعيات المسيحية.. حين اعتقد أصحاب " الفضيلة " ان وجود هذه الأماكن يؤثر على الأمن القومي.
هؤلاء الذين وقفوا فى شوارع الكرادة بكل ما لديهم من مخزون " الكره " للحياة المدنية، يتصورون انهم بشعاراتهم ولافتاتهم يحولون المعركة الى حرب بين مؤمنين وخارجين عن الدين، وانهم سينتصرون من خلال شعارات تحذر الناس من التدخل، فكل من يدافع عن حريات الناس وامنهم، انما يدافع عن الرذيلة حسبما جاء باللافتات التي امتلأت بها الكرادة.
في الوقت الذي خرج علينا شيوخ " الدمج " وهم يحملون العصي والبنادق و بحماية فوج طوارئ بغداد الذي تم تشكيله مؤخرا ليهدي أهالي العاصمة الى الطريق المستقيم.. في هذا الوقت كان هناك رجل سبعيني من اهالي ذي قار، لم ينتم ِالى فصيلة الشيوخ والوجهاء.. لكنه انتمى الى العراق.. كان عبد الزهرة شيّال يسير في شوارع ذي قار يجمع الناس حوله بكل شجاعة من دون كذب وشعارات " دينية " واضعاً خلفه كل وعود المسؤولين وأكاذيبهم وليرفع شعارا واحدا "حق العراقيين جميعا بالتمتع بثروات بلدهم "، وليثبت لنا ان البلد ليس "دولة شيوخ التسعينات " وشعاراتهم الزائفة، ولا تظاهراتهم.. خرج "شيّال" ومعه صحبه ليضعوا خلفهم العفن السياسي، ويقبحوا بصدقهم وصفاء نواياهم.. كل شعارات الساسة التي لم يعد أحد يهتم بها، أو يصغي إليها.
ومثل أزمة الكهرباء التي خرج متظاهرو ذي قار وبعدهم شباب البصرة، تحدث أزمات في كل مرافق الحياة يواجهها شيوخ التسعينات في بغداد، باللامبالاة ويديرون ظهورهم لها لأنهم مهمومون بالحصول على المكارم والامتيازات ومسدسات " مختار العصر "، وينتظرون ان ينتصر مشروع النائب محمد الصيهود لاستبدال مؤسسات الدولة بمجالس للعشائر تدير شؤون المواطنين..
ماذا يهم حين يعاني اهالي بغداد من سوء الخدمات التي تحوّل فقدانها إلى جهنم يكتوي الجميع بلهيبها..يمكن أن يقول " شيوخ الدمج " إننا وسط جو أمني مشحون، وان البلاد تتعرض لهجمة شرسة من الإرهابيين... وان هناك من يريد ان ينفذ اجندات اجنبية حين يصر على افتتاح " المقاهي " سواء في الكرادة او الاعظمية او الكاظمية.
كنا دائماً نطرح سؤالاً لا نجد له إجابة: لماذا نجد الارهاب يركز على الحياة المدنية ويستهدف تجمعات المواطنين، والملاعب وفي الآونة اصبحت المقاهي هدفا لهجماته الدموية؟، ولماذا لا نجد اجراءات امنية توقف استهداف هذه الاماكن؟ الإجابة تكمن في ما حصل قبل ايام في الكرادة، فـ "شيوخ الدمج " وجه آخر للارهاب، لكنه يلبس قناعاً حكومياً.. المهم ان تنشغل الناس بمعركة تحرير بغداد من رجس الشيطان.. وتنسى الخراب والمليارات التي تسرق في وضح النهار!