"ماأسوأ المفاضلة بين الفوضى والطغيان" تلك كلمات لأستاذ الفلسفة والنقد والأدب واللغة الدكتور سعيد عدنان قرأتها على صفحته في الفيسبوك . وهي بلا شك تعبر عن واقع نعيشه، وفيها مداليل قمينة بالتحليل والتقييم.. فكثيرا مانسمع هذه المفاضلة من الناس، ونسمعها من كل الطبقات ؛ من المثقفين والكتاب والأدباء والأكاديميين ، ومن الأميين والجهلة والذين لم تسنح لهم فرصة التعليم . نسمعها من الأطباء والمهندسين، ومن الصناعيين والمزاعين . نسمعها من المعلمين والطلبة،ومن التكنوقراط المهنيين والسياسيين .نسمعها من الأغنياء والفقراء . ونسمعها من كل المذاهب والطوائف ، ومن كل القوميات . نسمعها من الجميع في محافلنا الخاصة، والمنتديات العامة. وهم جميعا يختلفون في أي الحقبتين أفضل..حقبة الطغيان التي مرت بظلامها وظلمها..أم حقبة الفوضى التي مازال أقطابها للآن يعيثون في البلاد فسادا وتدميرا .. وكل فئة تذكر محاسن أهلها وإن عزت وصغرت، فتقابلها الفئة الأخرى بمساوئها وهي كثيرة وكبيرة .
حقبتان في غاية السوء وكل منهما أسوأ من الأخرى لكننا مازلنا نفاضل بينهما وندافع عنهما فماذا يعني ذلك ؟
لاغرو أن علماء النفس والاجتماع أقرب الى تحليل هذه الظاهرة وتقييمها في المجتمع العراقي. لكنني هنا لا أريد سبر أغوارها، إنما أحاول أن أتبين الدلالات التي تدفعنا جميعا الى المفاضلة بين حقبتين سيئتين ؟
لعل من أهم دلالات ذلك أن مجتمعنا ينظر إلى ماضيه أكثر مما ينظر إلى مستقبله، وأنه لايثق بأن واقعا أفضل سيعيشه غدا او يعيشونه أولاده وأحفاده من بعده . ولعل مرد ذلك هذه الحروب والمعارك، والشحن الطائفي، والقتل اليومي، وفقدان قيمة العمل وقيمة الحياة التي عاشها مجتمعنا خلال المئة سنة الأخيرة. فعلى الرغم من أن تاريخنا البعيد زاخر بالحضارة إلا أنها لم تستطع أن ترفع من قوة الأمل او الإيمان الحقيقي بأننا نحن العراقيون يمكننا تحقيق التقدم من جديد.. إنها الثقة المفقودة بالمستقبل وبالنفس في صنعه.. وفقدان الثقة مرض اذا أصاب مجتمعا نخره من الداخل فلا تسمع الا القول والضجيج والجعجعة بلا طحين.. والمجتمعات التي تفقد الثقة بنفسها فهي بلا شك تفقد الثقة في قدرتها على إحداث التغيير فتطلبه من الخارج.. ولذلك نسمع أيضا بيننا من يطالب ب(( ديكتاتور عادل )) ليصب غضبه على الفاسدين وينصر المظلومين وهو قول فاسد أخرق لاصحة له، فهاتان صفتان متناقضتان لاتجتمعان في جوف واحد..
ومن الدلائل أيضا أن أهلنا مازالوا منقسمين بين حنين للماضي المظلم والظالم، وناصر للحاضر الفوضوي الفاسد. وكل له أسبابه، وكلاهما ؛ هذان القسمان من الناس، وهما الأغلبية في مجتمعنا، يدل سلوكهما على قلة الهمة والطموح فأحلامهم صغيرة كرؤوس العصافير أو اصغر منها..
وأهم الدلائل لهذا الفعل في نظري هو قلة الوعي والجهل المستشري، سواء أكان جهلا بسيطا أم مركبا أم ثلاثي الأبعاد. واذا كان النظام السابق قد أفشى الجهل بين الناس، فإن النظام الحالي قد أفشاه في أعلى مراكز السلطة وأكثرها تأثيرا في القرارات التي تمس هذه الشرائح كلها. فاختلط كل شيء بكل شيء.. المفاضلة بين النظام السابق والنظام الحالي تعيسة. فكلاهما سيئان، ولا يقوم بها إلا جاهل أو فاقد للثقة بنفسه أو بمجتمعه أو بقدرته على بناء مستقبل أفضل له أو لأبنائه..
النظام السابق انتهى وزال.. والنظام الحالي نهايته على الأبواب لايؤخر ذلك سوى التفاتنا الى الخلف والوراء وفقدان الثقة بمستقبل مشرق.. فيا أيها العراقيون تعالوا ننظر الى الأمام ونزيح الفوضى مثلما زحنا الطغيان، لنبني معا مستقبلا مشرقا ودولة كريمة متقدمة . والعراق من وراء القصد.
مقالات اخرى للكاتب