( وطن بلا مواطن ، ومواطن بلا وطن ).. تتوارد عليّ هذه الجملة في محك العقل كلما وجدت تعبيراً واقعياً لمواطن عربي يتألم من وطنه ، أو تشخيصاً لأوجاع عربية جماعية كما هي في الصور الإعلامية هذه الأيام .. فإن تصورنا وطن بلا مواطن ، فهذا غير ممكن ويلغي الوطن من محتواه وماهيته ، إذ لا معنى ولا قيمة لأرض دون إنسان يمشي عليها وينتمي لها ويحرثها ويعمرها ، وإن قلنا مواطن بلا وطن ، ربما ممكن وواقع موجود ، فتجد إنسان يسير بقدميه على أرض الوطن لكن لا ينتمي له البتة ، ولا يربطه بوطنه أي صلة روحية ، فقط انتماء على الورق ، مع حرمان الشعور بالوطنية ، لكن هذا الإحساس متعب ، وينم عن عدم الاستقرار . لكن من يحتوي الآخر ، هل الوطن يحتوي الإنسان ؟ أم العكس ؟ تتجلى الحقيقة وإجابتها من ظاهر التطبيق كرد فعل ، إذ يحتوي الوطن الإنسان منذ نعومة أظافره حتى يترعرع ويكبر ، ثم يلقى الدور على الإنسان كي يرد الجميل بحماية الوطن الذي احتواه ، فيحتويه .
يا وطن ! أنت تريد ، وأنا كمواطن أريد ، ولكي يحدث التكامل والانسجام بيننا ، يجب أن نحترم ونلبي طلباتنا ؟
ينشد المواطن " الإنسان " من الوطن أربعة حقوق وهي : ( الاعتراف ، الأمن ، لقمة العيش ، الحريات ) والوطن أيضاً يطلب من الإنسان أربعة حقوق وهي : ( الولاء ، الإيـثار ، التعمير ، الحماية ) ، لكن لو فكرنا ملياً وركزنا جلياً لوجدنا إن المعنى الحقيقي للوطن والوطنية هو ( الإنتماء ) ثم ( الهوية ) ثم ( الأصالة ) ثم ( التمثيل ) وهذا كله يعني ماهية وطبيعة العلاقة والانصهار والاندماج بين الإنسان ( المواطن ) والبيئة المحيطة به مع قوانينها ( الوطن ) ، وإن كل شبر وفتر بالوطن متعلق بتلك الروح الإنسانية التي تسير فوقه وتستفيد منه .. فالإنسان يمثل كل شيء بالنسبة للوطن ، بل هو الوطن نفسه كمعنى ومصطلح ، وهو الاستثمار الحقيقي لبقاء ونمو الوطن ، وليست الحكومات أو المجموعات والمؤسسات التي تدير جميع شؤونه وحدها فقط تمثل الوطن ! فما هي إلا جزء من الوطن ، فالحاكم والوزراء مواطنون ، ولهم وعليهم ما على الجميع من مسؤوليات وتوزيع أدوار تجاه الوطن ، وربما تتعاقب أمم وتذهب أخرى ، ويبقى الوطن بمواطنيه شامخاً ، وهذا هدفهم وديدن أجدادهم حتى ذراريهم ، وقيمة الوطن من قيمة المواطن والعكس صحيح ، فلا قيمة للعش دون طائر ، إذ تسلخ عنه ماهية العشعشة بنزع دور الطائر عنه ، فتصبح كينونة العش لا شيء ، وذكر الكلمة عبثا دون معنى ! ، وإذا بلغت الأصالة ذروتها ، يتحول حب الوطن إلي درجة الإيثار ، وهي أن تضحي للوطن بكل ما تملك ، فالوطن يعيش فينا قبل أن نعيش فيه ، وهو يحتوينا ويحتضننا ، وإذا بلغ تلك المنزلة يجني حب المواطن ، وكما يقول المثل الشعبي الخليجي " من ربى معزة أنجبت توم ، ومن خلاها ذهبت تحوم " ، وكما يقال الحديث " من زرع حصد " فزرع حب الوطن بقلوب المواطنين يحصد الانتماء والولاء .
نواة حب الوطن.
يغرس الوطن في الإنسان ( المواطن ) بذرة الحب منذ سقوط رأسه على ترابه ، ويهتم بها أي النواة مع ترعرعه ، وكبره حتى تصبح شجرة من الحب المميز والخاص بالأرض ، وعندما يبلغ الإنسان من العمر مأخذاً ، تظهر شجرة حب الوطن كالظل على رأسه ، فيهتم بها ( له وعليه ) ، أي أن إخلاصه للوطن بحمايتها والاعتناء بها ، والإنسان يحمي الوطن ويحميها لبقائها ، وهكذا تصبح أشجار حب الوطن موجودة مع كل إنسان يعيش على أرضه الطاهرة ، وتظهر معهم غابة من الحب والولاء والتضحية.
جاء في تعريف مسمى وطن في لسان العرب لأبن منظور القول بأن وطن يعني المنزل الذي تقيم به ، وهو موطن الإنسان ومحله ، والجمع أوطان ، وأوطان الغنم والبقر مرابضها وأماكنها التي تأوي إليها ، وأوطن بالمكان ، وأوطن أقام ، وأوطنه اتخذه وطناً. يقال : أوطن فلان أرض كذا وكذا أي اتخذها محلاً ومسكناً يقيم فيها، وأوطنت الأرض ووطنها توطيناً ، وأستوطنها أي اتخذتها وطناً . أما في الاصطلاح السياسي المعاصر فيقصد بالوطن " الجهة التي يقيم فيها الشخص دائماً أو التي له بها مصلحة أو فيها مقر عائلته ، والمواطنة : هي صفة المواطن الذي يتمتع بالحقوق ويلتزم بالواجبات التي يفرضها عليه انتماءه ، وفي القرآن الكريم لم يستعمل لفظ وطن، وقد أستعمل لفظ بلد ، وهناك سورة في القرآن باسم سورة (البلد) وهي السورة رقم (90) في القرآن الكريم ، يقول تعالى: { لاَ أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ . وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ }. ومنها بلدة وبلاد كقوله تعالى: { بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ } ، وقوله تعالى: { الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاَدِ }، كما استعملت لفظة (ديار) يقول تعالى: { قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا } ، ومن الحديث الشريف يمكننا الاستشهاد بالحديث المتداول والمشهور وهو: (حب الوطن من الإيمان) ، فمن المظاهر الإيمانية للإنسان أن يحب وطنه وأن يواليه بروحه وماله وعياله ، وواجب الوطن حماية المواطن بكل الظروف ، وأن يعامل مواطنيه دون تميّز لمذهب أو عرق ، فالكل مواطنون سواسيه .. حماك الله يا وطني من كل شر وأدام الله عزك .
مقالات اخرى للكاتب