من منطلق أخلاقهم التعاونية واحترامهم للنظام، ابتكر الإنجليز أثناء الحرب العالمية الثانية نظام الصف أو الطابور. حيثما لزمتهم حاجة اصطفوا في صف ووقفوا ينتظرون دورهم صاغرين وصابرين. بلغ ولعهم بهذا التقليد أن تراهم أحيانا يسرعون للوقوف في آخر الصف وينتظرون لساعات دون أن يعرفوا ما الذي سيؤدي إليه الصف. أصبح نوعًا من الحياة الاجتماعية. تعرف بعضهم بزوجاتهم نتيجة وقوفهم في الصف وتحدُّث بعضهم مع بعض. فمكالمة امرأة لا يعتبر تحرشًا بها عندهم. وهذه خير وسيلة لاختيار زوجة صالحة، فوقوفها في الصف يعطيك خير فرصة لاكتشاف صحتها وقوتها البدنية ومدى صبرها وتحملها للمشقات.
هكذا تراهم في الشارع يقفون في صف انتظارًا لدورهم في ركوب الحافلة أو الحصول على تاكسي أو شراء آيس كريم أو جريدة، أو حتى الزواج بامرأة حسناء. وهم طبعًا يحتقرون تمام الاحتقار من يحاول تجاوز الصف وينط إلى المقدمة أو وراء امرأة حليوة. سمعت عن شخص فعل ذلك. نظر إليه أحد الواقفين باستياء ثم سأله: «أنت حضرتك عربي؟».
رأيت كثيرا من هذه الصفوف ولكنني لم أتصور أنهم يأخذون مكانهم في الصف انتظارًا للحصول على قبر يدفنون فيه أيضًا، ولكن هذا ما اكتشفته مؤخرًا أثناء هيامي بقيادة الزوارق الشراعية، حملني زورقي المزدوج الشراع إلى منطقة في كورنويل، غرب بريطانيا. أرسيت الزورق في خليج جميل احتلت ساحله مقبرة سان جوست. نظرت فوجدت القبور المحاطة بالشجيرات الخضراء والأوراد الزاهية والتماثيل الفنية، مصفوفة على شكل مدرجات منتظمة تنظر إلى البحر. قلت لنفسي آه! يا ليتني أموت لأدفن في هذا المكان الرائع وأنظر من قبري للبحر كل يوم. لم يحصل ذلك كما يلاحظ حضرة القارئ. وبقيت أعيش وأتحمل أخبار عالمنا العربي وما يفعله الإسلام السياسي بنا.
زرت هذا المكان مؤخرًا وذكرت لأحد أصحابي من سكان المنطقة إعجابي بهذه المقبرة وحلمي بأن أدفن فيها. قال صديقي: ما هذا بالأمر الهين. فهناك صف طويل من الناس ينتظرون دورهم ليدفنوا فيها. ومدة الانتظار الآن سبعون سنة. عليك أن تنتظر سبعين سنة ليشغر لك قبر فيها! فلم يبق شبر واحد منها خال من عظام أحد! تذكرت هنا قول المعري:
ودفين على بقايا دفين
ضاحك من تزاحم الأضداد
قطبت جبهتي في عجب وتساءلت: كيف يحصل شغور في مقبرة؟ هل تراهم يتوقعون أن يبعث بعد سبعين سنة أحد فيها من قبره ويرحل للفضاء ويبقى مكانه فارغًا. من أدراهم بذلك؟ هل «غوغل» قال لهم بذلك في الإنترنت؟
وعلى كل فمن تمنى لنفسه الدفن في هذه المقبرة التاريخية الرائعة المطلة على بحر المانش، عليه أن يسجل اسمه مع الإدارة ويدفع ثمن القبر والحفر والدفن مقدمًا بالإسترليني ويثبت أن جثته ستكون خالية من الأمراض التي قد تعدي بقية المدفونين هناك، ويعيش سبعين سنة انتظارًا لحصول شاغر فيها. وعليه أن يتذكر أن هذه المقبرة في بريطانيا وليست في العراق ليحصل على ما يريد بالرشوة والوساطة. والشواغر هنا أصعب وأندر من الشواغر للخريجين وطلاب الوظائف عندنا.
مقالات اخرى للكاتب