مارك ويسبروت: المدير المساعد في معهد البحوث السياسية والاقتصادية في واشنطن ورئيس قسم السياسة الخارجية في المعهد.
ترجمة : سجاد سالم حسين
تتمثل مهام منظمة مراقبة حقوق الانسان (هيومان رايتس ووتش : وهي منظمة غير حكومية وتعتبر الأهم في هذا المجال تم تاسيسها عام 1978 في أمريكا للتأكد من احترام الاتحاد السوفيتي اتفاقية هلسنكي) في الدفاع عن مبادئ ومثل عالمية كسيادة القانون والحريات, خاصة في ظل الأنظمة الاستبدادية. ولكن الاشكالية الكبيرة التي تواجهها هذه المنظمة هو ان مقرها الرئيسي يقع في الولايات المتحدة وان تأسيسها كان هنالك أيضاً, لذلك ونتيجة لقربها من الحكومة الامريكية فغالبا ما تجد نفسها مصطفة مع السياسة الخارجية الامريكية رغم ما قد تتعرض له المنظمة من أضرار تمس سمعتها وتسيء لقضايا حقوق الانسان.
الاحداث الأخيرة في أمريكا اللاتينية اكدت هذه المشكلة, ففي التاسع والعشرون من شهر آب من هذا العام أطاح مجلس الشيوخ البرازيلي بالرئيسة المنتخبة ديلما روسيف من منصبها, بالرغم من تأكيد المدعي العام الاتحادي البرازيلي الملكف في قضيتها ان الاجراءات المحاسبية التي قامت بها الرئيسة والتي كانت سببا في عزلها لاتشكل جريمة دستورية, وقد كشفت محاضر مسربة عن اتصالات هاتفية بين سياسيين قادوا حملة المساءلة ضد الرئيسة تبين انهم كانوا يريدون عزلها حماية لانفسهم من قضايا فساد تمسهم. كانت إجراءات عزل الرئيسة استهداف سياسي واضح, فالرئيس الجديد ميشال تامر والذي كان قد تم منعه من السباق الرئاسي بسبب انتهاكات في تمويل حملاته الانتخابية اصبح الان بديل لرئيسة لم ترتكب جريمة, وهو الان يسعى لتنفيذ اجندة حكومية يمينية ..تلك الاجندة التي سبق وان نالت الهزيمة في ثلاثة انتخابات رئاسية سابقة في البرازيل.
جزء من اجندة الجناح اليميني في الحكومة البرازيلية البديلة الان هو التحالف الوثيق مع الولايات المتحدة وستراتيجيتها في "الحرب الباردة" التي تخوضها للعودة الى القارة اللاتينية ومحاولات احتواء الوجود الفعلي المتحقق للحكومات اليسارية في القارة, ومن هنا يبرز عمل منظمة مراقبة حقوق الانسان والتي مقرها الولايات المتحدة (خاصة شعبة الامريكتين فيها), فقد صمتت عن توجيه النقد لكل الاجرءات الاتهامية ضد الرئيسة ديلما روسيف, والأسوأ من ذلك ان مدير شعبة الامريكتين (الشمالية والجنوبية) في المنظمة صرح للصحافة بعد الإطاحة بالرئيسة قائلا " البرازيليين يجب ان يكونوا فخورين بالنموذج الذي اعطوه للعالم"! كما أشاد باستقلال القضاء البرازيلي,علما ان القاضي المكلف بالتحقيق في الاتهامات الموجهة للرئيسة روسيف كان بعيدا كل البعد عن مفهوم استقلالية القضاء وحياده, والمفترض في كل قاض محله ان يعتذر عن مهامهه بعد تورطه في تسريب المكالمات الهاتفية للصحافة بين ديلما روسيف والرئيس السابق لولا دا سيلفا وبينها وبين محاميها ومكالماتها الهاتفية مع ابنائها.
وسبق لمدير شعبة الامريكتين في المنظمة فيفانكو ان أقر الاضطهاد السياسي في الارجنتين والذي مورس ضد الرئيسة السابقة كريستينا دي كيرشنر (رئيسة الارجنتين السابقة اليسارية 2007-2015) حين أشاد ببديلها الحكومة اليمينية المدعومة من أمريكا برئاسة موريسيو ماكري, وقد صرح فيفانكو ان " مصداقية المؤسسة تكتسب حينما تكون قادرة على مجابهة كائنا من كان" مشيرا بذلك الى المحاكمة الحالية للرئيسة السابقة. بالطبع ان الاتهامت ضد أي مسؤول حكومي والتحقيق بتهم الفساد مشروعة تماما والرئيسة السابقة ليست استثناء, لكن الرئيسة دي كيرشنر تم توجيه الاتهام لها مع وزير ماليتها السابق ورئيس البنك المكزي في اتهامات يعرف أي اقتصادي انها مجرد إجراءات اعتيادية يقوم بها البنك المركزي, وهذه الاتهامات ليست الا محاولة لتقويض السياسات اليسارية التي قامت بها الرئيسة السابقة مع زوجها الراحل نيستور كيرشنر (الرئيس الارجنتيني اليساري الأسبق 2003-2007), حيث ارتفعت في فترة حكمهما مستويات المعيشة بشكل واضح على مدار 12 عام.هذا النوع من القمع السياسي بعزل رؤساء منتخبين وشرعيين ينبغي ان يكون له ردة فعل من قبل منظمة مراقبة حقوق الانسان ولكن هذا لم يحصل ابدا من جانب هذه المنظمة القابعة في واشنطن.
وكمثال على هذا السلوك المنحاز بشكل واضح للسياسة الخارجية الأمريكية يمكن افتراضه من مواقفهما في القارة اللاتينية, فقد اعلنت إدارة أوباما بوضوح دعمها للانقلاب البرازيلي. ففي الخامس من شهر أغسطس الماضي التقى وزير الخارجية جون كيري مع وزير الخارجية البرازيلي بالوكالة وعقد مؤتمرا صحفيا مشتركا معه وتكلم عن مستقبل إيجابي للعلاقات بين الولايات المتحدة والبرازيل, يتصرف كيري كما لو كان مبعوث الخارجية البرازيلي يمثل حكومة فعلية في البرازيل بينما إجراءات اقالة ديلما روسيف لم تتم وقتها ولم يحدد مصيرها بعد, وسبق وان أرسلت الولايات المتحدة إشارة مماثلة بعد تصويت مجلس النواب البرازيلي بعزل الرئيسة بثلاثة أيام وقبل اجرءات مجلس الشيوخ البرازيلي النهائية للبت في القضية. أما في الارجنيتين فقد كان الرئيس أوباما واضحا جدا في تفضيله الحكومة اليمينية الجديدة, فقد رفعت الإدارة الامريكية الحظر عن معارضتها السابقة للقروض المقدمة لهذا البلد من منظمات متعددة والتي تم فرضها في عهد الحكومات اليسارية السابقة وقد ساهم هذا الاجراء في حل مشاكل ميزان المدفوعات في هذا البلد. وموقف المنظمة من هذه الاحداث لخصه مدير شعبة الامريكتين فيفانكو عندما سُئل عند سبب عدم إصداره بيان حول اقالة الرئيسة البرازيلية فأجاب " نحن لا نتدخل في توجيه الانتقاد والشجب للإجراءات والممارسات السياسية المحلية إلا في حال شكلت تهديداً كبيراً لحقوق الإنسان وسيادة القانون, فعلى سبيل المثال نددنا بالانقلاب الذي أطاح بالرئيس الهندوراسي( اليميني) مانويل زيلايا في عام 2009، وكذلك الانقلاب الذي تم فيه خلع الرئيس هوغو تشافيز لفترة قصيرة عام 2002. ولكن الوضع في البرازيل مختلف, سواء اتفقنا ام اختلفنا، هذه عملية سياسية تحدث في البلاد مع وجود سلطة قضائية مستقلة قادرة على تطبيق القوانين التي تحكم هذه العملية".
عندما أطاح الجيش الهندوراسي بالرئيس زيلايا، نلاحظ أن شعبة الأمريكتين في هيومن رايتس ووتش فعلت القليل جدا, فقد اقتصر عملها على نشر بعض البيانات في موقعها على الانترنت في الأشهر التي تلت الانقلاب، ولكن هذه كانت سياسة محترفة جدا تقدمها المنظمة, في الحقيقة لدى هيومان رايتس ووتش القدرة على الوصول إلى وسائل الإعلام الأمريكية الأكثر أهمية في الرأي والأخبار ويمكنها أن تكون فعالة بشكل كبير في هذا الجانب. ومع ذلك، ففي الأشهر التي تلت الانقلاب في هندوراس، لم يكن هناك شيء في وسائل الإعلام صلدر عن المنظمة. وهيومان رايتس ووتش عكس منظمة الدول الأمريكية OAS(منظمة دولية مقرها واشنطن أعضائها 35 دولة في القارة لامركيية) والأمم المتحدة وبقية العالم، لم تطالب ابدا بإعادة الرئيس المنتخب ديمقراطياً لأنه خلال تلك الفترة عملت السياسة الخارجية الامريكية بواسطة وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون بنجاح لمنع الرئيس الهندوراسي زيلايا من العودة إلى منصبه (وقد كتبت ذلك في مذكراتها عام 2014).
على الرغم من أن هيومان رايتس ووتش تستنكر أحيانا انتهاكات حقوق الإنسان من قبل الحكومات الموالية للولايات المتحدة لكن شعبة الأمريكتين في هيومان رايتس ووتش تعمل في بعض الأحيان على تجاهلها أو تسليط القليل من الاهتمام بالجرائم الفظيعة التي تُرتكب بالتعاون مع حكومة الولايات المتحدة في هذا الجزء من القارة, وأسوأ الأمثلة على ذلك هو الإطاحة بالحكومة المنتخبة في هايتي بدعم امريكي عام 2004 وما تلا ذلك ذلك من قتل للآلاف وزج مسؤولي الحكومة الدستورية الشرعية في السجون, وقد لعبت منظمة الدول الامريكية دورا هاما في الاطاحة برئيس هايتي المنتخب عام 2004 ومن ثم التدخل في تغيير النتائج الانتخابية فيها عام 2010 بتوجيهات من واشنطن.
هيومان رايتس ووتش قد رفضت مرارا وتكرارا ودون تمحيص كل الانتقادات التي وجهت لها بشأن تضارب المصالح في المنظمة, تتضمن هذه الانتقادات رسائل من علماء واكاديميين وحائزين على جائزة نوبل ومسؤولين سابقين رفيعي المستوى في الامم المتحدة يطالبون فيها هيومان رايتس ووتش بمنع كل من ينفذ السياسة الخارجية الامريكية وكذلك منع المستشارين أو الأعضاء الكبار في الإدارة الأميركية من العمل كموظفين في المنظمة، إضافة الى منع أولئك الذين يتحملون المسؤولية المباشرة عن انتهاكات حقوق الإنسان من المشاركة في مجالس إدارة المنظمات المستقلة لحقوق الإنسان مثل هيومان رايتس ووتش.
الحكومات التي ترتكب انتهاكات لحقوق الإنسان - وهذا يشمل كل حكومة في العالم تقريبا – غالباً ما تهاجم منظمات غربية لحقوق الإنسان أو منظمات محلية تمولها الولايات المتحدة وتعتبرها كأدوات للحكومات الغربية. وهذا ما يساعد هذه الحكومات على الحط من النضال المشروع من أجل حقوق الإنسان وحتى حشد دعم وطني لهذه الأنظمة الاستبدادية. ولذلك فمن الأهمية بمكان أن تتمسك منظمات حقوق الإنسان بمبادئها المعلنة في الدفاع عن حقوق الانسان دون أدنى اعتبار لأهداف ومصالح السياسة الخارجية للولايات المتحدة الامريكية.
مقالات اخرى للكاتب