نحتاج الى إدارة حديثة تستطيع النهوض بالبلاد، وإلى قوانين جديدة للإدارة والمالية تختصر الطريق وتوفر الوقت والجهد لكي نضع البلاد على السكة الصحيحة، فالإدارة الكلاسيكية لم تعد صالحة للدول اليوم، والقطاع العام في الدول ذات الاقتصاديات الناهضة يعتمد الادارة الحديثة التي تزاوج بين القطاعين العام والخاص. الادارة الحكومية الحديثة أخذت العديد من معايير وآليات عمل الادارة الخاصة وبينها موضوع الرقابة والمحاسبة، أما في القطاع العام الكلاسيكي فمعيار المراقبة هو مدى الالتزام بالضوابط والقوانين والتعليمات، فيما الادارة الخاصة تعتمد المحاسبة على النتائج. لا يهم صاحب العمل ان الموظف التزم بما وضعه له من قوانين. المهم انه يحقق النتائج المرجوة بأقل مدة وكلفة وبالجودة المطلوبة. هذا المعيار اعتمدته الادارة العامة في الكثير من الدول.
عندنا يجري العكس. قوانيننا، ونظامنا الاداري متخلف، وموظفنا هو من يلتزم بذلك حرفيا، ولو أدى ذلك الى هدر الوقت والجهد والمال دون تحقيق النتائج المرجوة. أما الذي يحقق الهدف ويوفر الجهد والمال والوقت ولو بخرق القانون او التعليمات فهو في معيار المراقبة والتفتيش، موظف فاسد يتعرض الى المساءلة أو حتى الاعتقال. الامثلة على ذلك كثيرة: مؤسسة حكومية أرادت شراء سلك كهرباء بطول 100 متر، ويتوفر هذا السلك على بعد عشرات الامتار من مقرها بنوعية جيدة وبسعر عشرة آلاف، لكن التعليمات تقول ان عليها ان تشتري من وزارة الصناعة او التجارة. أعدت كتاباً موجها للوزارة مستفسرة عن وجود مثل هذا السلك. استغرق إصدار الكتاب الرسمي أسبوعا متنقلا بين غرفة وأخرى، وهوامش وتواقيع يتزايد عددها كلما دخل غرفة جديدة. بعد اسبوعين أجابت الوزارة بأن أحد مصانعها ينتج هذا السلك وطلبت إرسال شيك مصرفي بمبلغ عشرة آلاف دينار. استغرق إصدار الشيك أسبوعا آخر، وعندما وصل الى وزارة التجارة أخبروا مندوب المؤسسة ان الامر يحتاج الى اسبوعين حتى يتأكدوا من دخول المبلغ في حساب الوزارة. بعد أسبوعين سلمت الوزارة المندوب كتابا موجها الى مصنع الكابلات في إحدى محافظات الجنوب. إحتاج الامر الى إيفاد موظف ومعه سيارة وسائق من المؤسسة لمدة يوم كامل بمصاريفه المادية، ليجلب السلك الذي تبين لاحقا أنه غير صالح للاستخدام. ولو كان المسؤول المعني أمر بشراء هذا السلك من السوق ووفر كل هذا الذي بذل لتعرض الى المساءلة.
هكذا بات الموظف الحكومي لا يفكر في الانجاز بل بتحاشي المساءلة. ولا أحد يلومه على ذلك. ولو قرر موظف شجاع الانجاز بعيدا عن القوانين والتعليمات، فانه يعرض نفسه للمساءلة. هكذا تعج هيئة النزاهة بالملفات ضد موظفي الدولة باختلاف درجاتهم، وهكذا أهدرت كرامات أناس أرادوا العمل والانجاز.
نحتاج الى ثورة إدارية، وإلى إدارة حديثة، فالاجراءات والقوانين "التاريخية" المعمول بها حاليا توفر فرصا للفساد، أقله فساد عدم الانجاز، فبالادارة الحديثة سنوفر الكثير من الجهد والمال في القطاع العام، ونقلل فرص الفساد، ونحفظ للمواطن كرامته.
مقالات اخرى للكاتب