كان يا ما كان وقبل أكثر من خمسين عاما .يسكن في مدينتي ناحية المدحتية التابعة الى محافظة بابل رجل بسيط فقير بكل القياسات المادية والفكرية .وكان هذا الرجل طيب القلب ومن عائلة محترمة، عاش يتيم الابوين منذ صغره، وعند بلوغه سن السابعة من عمره تعلم مهنة صعود وتلقيح النخيل وتنظيفه وقطافه، لكن القدر لم يتركه فقيرا يتيما بل ابتلاه بمرض في راسه فاصبح حاد المزاج.عصبيا متوتراً وأنطوائياً في اغلب الاوقات، لكنه يحب نفسه ويعتني بمنظره وهندامه، أنيق ونظيف، لا يجلس إلاّ مع المثقفين بالخصوص شريحة المعلمين منهم، فتراه يعرفهم جميعا ويتبادل معهم النكات ويشاركهم الحديث على بساطته، يستمع لارائهم ويحفظ ما يتكلمون به، أي انه مستمع جيد، ويكره الجهلاء والجاهلين، لكن عندما عبر الثلاثين من عمره اختلفت افكاره تماماً، بحيث أصبح يحب الانكليز ويكره من يشتم الانكليز! كنت صغيرا وكان ابو خليل واسمه (أبراهيم) جيراننا.يدخل بيتنا وكل البيوت ويحفظ اسمائهم، لكن البعض اتهمه بالجنون لحبه للانكليز وهو ليس مجنونا، وكان يداعب الصغير ويلاطف الكبير، لكنه سريع الثورة والغضب عندما يسمع أحد من جهلاء الناس يشتم الانكليز، وكان بعض أهالي المدينة يستفزونه من خلال اسماعه كلمة (طاحظ الانكليز)، عندها تثور ثائرته، وتتحطم اعصابه، ويجهش بالبكاء في أحيان كثيرة، هذا الرجل كان ذواقاً جداً في المأكل والملبس، يلبس وياكل من عرق جبينه، من خلال مهنة تلقيح النخيل، تعبه، وفي موسم رواج التمور، كان دائماً يحمل سلة مصنوعة من خوص النخيل، ويسميها أهل المدينة (جله)، وكان يومياً يملأ الجله بأ طيب التمور ويقوم بتوزيعها على العوائل الفقيرة والقريبه منه وجيرانه وكل الذين يحبهم وعلى مدى موسم التمر، ولم يقبل بأخذ مبالغ مقابل التمر، علماً فقير الحال... لكنها الحياة وغدرها.
مرض ابوخليل فصار لا يستطيع القيام بعمله الشاق(صعود النخيل).فرجع الى نخبة من اصدقائه المعلمين يطلب منهم المساعدة وبطريقته الخاصة التي تحمل بين طياتها نفس كبيرة، حيث يبادرهم (جيب وغصبا عليك اني قابل دا أجدي منك فيضحك الجميع)، لكنه لم يقبل أي مساعدة مهما كانت من غير هؤلاء أصدقائه.
واليوم وبعد ان اصبح العراق محتلا من الامريكان عرفنا جيدا (ليش جان ابراهيم ابو خليل لا يقبل ابداً ان نشتم الانكليز)! فالعراق كان محتلا من قبل العثمانيين والذين عاثو بالعراق فساداً باسم الدين والتدين، وفي ظل شعارات ياقائم آل محمد، حيث كانت توضع خلف عرش السلطان العثماني لافته تحمل هذا الشعار ليوهموا الناس وخاصة البسطاء منهم واغلبهم غشمه بان العثمانيين يحبون الرسول الكريم(ص) وآل بيته الكرام، والدولة العثمانية تمشي على نهج الرسول الاكرم(ص)، لكن الحقيقة عكس الشعارات، فالدولة العثمانية استباحت العراق بحيث كانوا يسومون العراقي شتى انواع العذاب والتنكيل والجوع والقتل والتشريد وانتهاك الاعراض وسلب الحريات ونهب الثروات وفرض الضرائب، بحيث (اذا تريد تبيع كونية ملح ياخذون ضريبة! واذا تملك زمالاً(مطي) ياخذون ضريبة بوزن ذلك الزمال! ولا اريد أن أطوخ بالحجي، لكن الطامة الكبرى كانت تصدر فتاوى من المعممين تطلب من الناس القتال مع العثمانيين ضد الانكليز بحجة ان الإنكليز يهود وحرام التعامل معهم! ونحن نعلم ان العراقي قشمر وساذج وصاحب نخوة ! خرج يقاتل الانكليز ونسية عذابات واضطهاد الدولة العثمانية التي حكمته اكثر من 400 عام! وبعد انتهاء الحرب التي انتصرت فيها بريطانيا العظمى، أصبح العراق تابعاً ذليلاً محتلاً لبريطانيا.
حكمت بريطانيا العراق فارادت تطبيق الديمقراطية والفيدرالية منذ عام 1918، حيث قامت بريطانيا وخطابي هذا موجه للشباب: قامت ببناء جسور حديثة على الأنهر، من جسر قضاء الهاشمية وانت حاط ايدك، ومد سكك الحديد بين مدن العراق، وربط العراق مع العالم بسكة حديد بغداد موصل تل كوجك تركيا ومنها الى العالم، وقامت بريطانيا ببناء السدود الضخمة والباقية الى الان في الخدمة منها: سدة الكوت وسدة المسيب وسدة الهندية وسد حمرين وسد دوكان ودربندخان وباقي السدود العظيمة، وبناء محطات للسكك ومنها محطة بغداد العالمية والموجودة الى الآن، وبناء المعسكرات والثكنات العسكرية، مثل معسكر الحبانية والشعيبة والحلة، ومعسكر الرشيد والديوانية وغيرها، وبناء المطارات المدنية والعسكرية مثل مطار المثنى ومطار البصرة الشعيبة والحبانية، والدور الملحقة بها، .وتأسيس وبناء النظام العقاري وبناء النظام الاداري والتربوي والصحي، وبناء المدارس ونشر التعليم المجاني مع ارسال مجاميع من الخريجين الى الخارج لاكمال دراستهم وعلى نفقة الدولة، والتشجيع على اقامة النقابات والمنتديات الثقافية وتاسيس الكتل والاحزاب السياسية.
هذا بعض ما فعلته بريطانيا العظمى للعراق.
واليوم عرفت (ليش المرحوم ابوخليل يحب الانكليز!).
وأذكر طرفه: كان الحجاج العراقيون يذهبون عن طريق الكويت الى مكة المكرمة، وعند نزول القافلة في العاصمة الكويت، ينزل الحجاج الى أسواق الكويت ومنهم المرحوم (محمد الحبلجي) ليشتروا بعض الحاجيات (صوغه)، فشاهد الحبلجي اشياء لم يراها من قبل من كهربائيات الى الاكلات الجاهزة الى كل ما تشتهي نفسك، لكنه عرف انها بضاعة انكَليزية حينها صرخ حجي محمد (هاي الحاجيات البسوك امنين؟)، فأجابوه: هذه بضاعة انكليزية، فتهستر حجي محمد وصاح باعلى صوته (يعيش الانكليييييز.يعيش الانكليييييز)، وأردف مستهزئاً: ولكم يا طوب يا مكَواري، ثم صاح اذا وصلت الى بيت الله (مكة) أريد أدعوا الله بلكت يرجع الانكليز للعراق.
مقالات اخرى للكاتب