الحرية .. كلمة
سألني صديق كريم: ما جدوى أن نتغنّى بتعاسات التاريخ وأوجاعه ، وتبتلعنا معاركه الطاحنة ، وصفحاته المفخخة ؟.. أوَ لم نشبع من مواعظه ومأثوراته ، من ملاحمه وضحاياه ، ومن حروب عبس وذبيان ، والحرب السجال بين الأمين والمأمون التي لا تطحن في أتونها إلا الفقراء ؟!.
ليس التاريخ دائماً على صواب ، فلماذا استمراء الخطأ وتسميم الأفكار وتفجير الحاضر . ثمّة حرب بين ذاكرتين . ماذا يحدث لو فقدنا الذاكرة وبدأنا من جديد ؟.
إلى متى نبقى نلاحق الضمّة ، ونراقب الكسرة ، ونختلف على الفتحة ، ونحن نستهلك من أعصابنا ، منشغلين بخلافات البصريّين والكوفيّين في الشأن اللغوي ؟.
أليس من المفجع أن تكون لعبة كرة القدم وحدها قاسمنا الوطني وجامعنا العراقي المشترك ، برغم أن بلدنا ينام على ستة آلاف عام من الحضارة ، ويشدّنا الحنين إلى أنكيدو ، وجلجامش ، والثور المجنّح ، وقبور الأجداد ؟!.
كيف نفهم هذا الاستقطاب الطوائفي حين نرى رايات ذلك البلد تخفق فوق الهامات في مواكب هذه المسيرة ، تقابلها صور هذا الزعيم يتلقفها بحر من القبضات في مسيرة ذات شعارات معاكسة ؟!.
أليست مفارقة محزنة أن يكون مواطن في أبعد نقطة من العالم أقرب إلى قلبك وعقلك ووجدانك من شقيقك العراقي ، لأن ذاك البعيد القريب ينتمي إلى طائفتك ؟ ينتابني الخجل حين تكون الطائفة مقدسة أكثر من اللغة والأرض والمواطنة والخارطة ، التي يبدو أمامها الوطن يتيماً بلا أهل ولا قبيلة .
أحزنني أنني لم أملك جواباً يشفي غليل قارئ ، قال لي بجملة واضحة لا لبس فيها ولا غموض : إن قرية صغيرة نائية قادرة على إسعاده ، خير له من ألف وطن ووطن ، يشعر فيه أنه مهان وغريب وذليل .
لم يعد عجيباً في هذه الأيام أن يُخرجوا الطبري من قبره ليحاكموه على كتابه ( الأمم والملوك ) ويعلّقوه في حبل مشنقة ، أو يُلقوا القبض على ابن خلدون متلبّساً بجريمة في كتاب ( المقدمة ) ، أو يقطعوا رأس أبي العلاء ، أو يصادروا بيان الجاحظ ، أو يرجموا ابن الأثير ، أو يقيموا الحد على القرطبي ، أو يحرقوا مخطوطات المسعودي !.
في الأيام الأولى من الاحتلال الأميركي للعراق وكنّا مشدوهين بالصدمة ، وجدت بي حاجة ملحّة أن أستعيد قراءة قصة ( أوليفر كرومويل ) قائد أول ثورة في أوربا ضد الملكية وإعلان الجمهورية .. فعندما دارت السنين ومات ( كرومويل ) وعادت الملكية إلى بريطانيا مرة أخرى ، أصرّ ابن الملك العائد إلى العرش ، على تنفيذ حكم الإعدام في ( كرومويل ) برغم أن ( كرومويل ) كان قد مات .. لكن بأمر من الملك الجديد حفروا قبره ، وأخرجوا هيكله العظمي من تحت التراب ، وعلّقوه في ميدان عام من حبل مشنقة .
يساورني خوف وقلق كلما تمعنت في هذه الحبال من المشانق لصفحات من بطون التاريخ . وهذا البلد يندفع من هاوية إلى هاوية ، وينزلق من منحدر إلى منحدر ، كمن يريد أن ينتحر .. فالأمم التي تقطع رؤوس مفكريها لا خير فيها ، والأوطان التي تستبدل الحبال الصوتية بحبال المشانق فإنها أوطان خرساء ، يضرب الجهل في رواقها .. والداء عياء ، والبلاء باق ، والعليل طبيب إذا عرف علته .
مقالات اخرى للكاتب