( فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ) الزخرف آية 54
يحرص الطغاة دائما على انتهاج سياسة الاستخفاف لتركيع الشعوب و ليتمنكوا من تثبيت حكمهم وديمومته واحكام السيطرة على كل تحركاتهم بل التحكم بأفكارهم واشاعة ثقافة الخنوع والخضوع لسطوتهم ، وهذا يبدو واضحا من خلال دراسة تاريخ الطغاة عبر التاريخ.
والاستخاف معناه إلغاء عقول الناس وتحويلهم الى قطيع من البهائم يسمع ويطيع والتحكم بهم ذات اليمين وذات الشمال. واستخف فرعون قومه أي ( استخف بعقولهم ) كما ورد في تفسير صاحب الميزان. تعددت صور الطغاة من حيث المواقع وعبر العصور اذ ربما يكون الطاغية رب أسرة أو شيخ عشيرة أو رئيس حزب أو راهب أو قس أوعالم دين أو رئيس دولة أو سلطان أو ملك....الخ.
عمد الطغاة على نشر مظاهر الفسق في كل مناحي الحياة لهذا نرى أن الجملة الأخيرة من الآية الشريفة ( إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ) تبين أن أس الإستخفاف وأساسه هو ( الفسق ) ، والفسق معناه خروج الإنسان عن الفطرة التي فطر الله الناس عليها أي خروجه عن طاعة ربه وتمرده على تعاليم الشريعة المقدسة ، ولهذا كان الطغاة ولا زالوا يسعون الى تحويل الأمة الى أمة فاسقة بطرق وأساليب شتى لغرض تركيعها واخضاعها ، لأن الفسق يهبط بالإنسان الى دون المستوى الحيواني ويجرده من كل قيم ومبادئ الخير واذا ما فقد الأنسان انسانيته وسيطر عليه شعور الذل والهوان صار طيعا كآلة ينفذ أوامر الطاغية بسهولة.
والفسق متعدد المشارب والأتجاهات فهو يتمثل في الفساد الأخلاقي كالزنا ودور الدعارة والنوادي الليلية وشرب الخمر تحت شعار الحرية وحمايتها قانونيا ، أو اشاعة الخوف مثل تشريع القتل والتشجيع على إثارة النعرات العشائرية والعصبية القبيلة ، أو تفشي ظاهرة الطائفية بكل أشكالها مما يهدد النسيج الإجتماعي وتمزيقه ، أواشاعة السلب والنهب ، أو اشاعة الرشوة تحت غطاء قانوني وفساد القضاء وغيرها من الأساليب التي تؤدي بالنهاية الى الفسق.
ومنذ فجر التاريخ والى يومنا هذا لازال الطغاة بكل اشكالهم وأنواعهم يمارسون أسلوب تفسيق الأمم ومسخها وافسادها ولهذا نشأت مراكز أبحاث متخصصة لهذا الغرض وتخرج أساتذة ومستشارين يعملون لدى رؤوساء الدول والحكومات ورؤوساء الأحزاب والتيارات السياسية لغرض غسل أدمغة اتباعهم ومريدهم وتحويلهم الى أجهزة للدفاع عنهم ، كما برزت مؤخرا تيارات وحركات دينية سياسية لأنها الأقرب لمشاعر الأمة اضافة الى ظهور جمعيات تحت عناوين جمعيات خيرية أو منظمات مجتمع مدني ، كل هذه الأنواع والأشكال هدفها هو تسويق الأفكار والثقافات الى عقول الأمة وتقديمها بشكل مزيف وبطريقة يختلط فيها الحق بالباطل عبر وسائل إعلام متخصصة نشأت لهذه الغاية.
وعادة ما تسود في نظام الحكم الأستبدادي ظواهر شاذة عن الفطرة الأنسانية يحرص الطغاة على نشرها و رعايتها و التشجيع على ممارستها نذكر بعضا منها:
أولا: شيوع ظاهرة الجهل في الوسط الإجتماعي.
ثانيا: تغيب العلماء وأصحاب الفكر والمثقفين والصالحين أما بالقتل أو الأعتقال أو النفي والتهجيرالقسري.
ثالثا: تسليط الجهلة ومنحهم مناصب قيادية في الدولة والمجتمع وعلى الصعيد العشائري والديني.
رابعا: اشاعة ظاهرة الشك والريبة وزعزعة الثقة بين أفراد المجتمع بل بين أفراد الأسرة الواحدة وتمزيق النسيج الإجتماعي وتفريقه ليسهل على الحاكم السيطرة المطلقة على الشعب.
خامسا: شيوع ظاهرة الخوف والرعب في المجتمع.
سادسا: اصابة المجتمع ( بالحَيرَة ) وعدم التميز بين الصواب والخطأ، وهذا ناشئ بسبب الخلط المتعمد بين الحق والباطل.
سابعا: شيوع ظاهرة الإيمان بالخرافات وأعمال السحر والشعوذة وتحويل الشعائر الدينية الى ممارسات شاذة لا علاقة لها بالدين انطلاقا من تشويه الدين الألهي ومساواته مع الأفكار الوضعية.
ثامنا: غياب القانون في كثير من الأحيان بل تسخيره وفقا لإرادة الحاكم أو لأغراض حزبية وشخصية وعشائرية.
تاسعا: تنامي ظاهرة العشائرية والعصبية والتفاخر والتعالي مما يسبب نزاعات مستمرة ولا نهاية لها.
و بعد أن تعرفنا على معنى الأستخفاف وعرفنا ايضا أن الفسق هو بوابته الكبرى وشخصنا الظواهر التي تسود المجتمع ، فلا شك سيكون الظلم هو السائد وتمسي كل الحقائق مزيفة والقوانين معطلة والشرائع محرفة بما فيها شريعة الله ، فلم يبق إلا انتظار النتيجة أو النهاية المحققة لهذا النظام الطاغوتي ، والذي يقرأ الآية الشريفة رقم 55 من سورة الزخرف ستتجلى له النتيجة واضحة اذ يقول سبحانه جلَّ شأنه:
(( فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ )) آية 55 ، وهذه هي النتيجة الحتمية ولا مناص منها وتتمثل بغضب الله تعالى ، والإيساف هو الإنتقام والدمار الواقع بسبب الغضب الإلهي المتحقق فعلا ، فأما غرقا أو خسفا أو حرقا أو وباء أو ريحا صرصرا عاتية وما الى ذلك من أنواع الغضب الألهي التي لايعلمها إلا الله تعالى.
ويعج التاريخ بأسماء الطغاة والظالمين حيث تتشابه أفعالهم وتتناوب أدوارهم وممارساتهم وكأنهم خلقوا من طينة واحدة وتخرجوا من مدرسة واحدة على الرغم من تباعد أو تقارب الفترة الزمنية بينهم فيشتركون بالصفات والمنهج والأسلوب لأن الأستاذ والمعلم هو نفسه لم يهلكه الدهر ولا تثبط عزيمته الهزائم نعم استاذهم الشيطان ولهذا السبب تشابهت الأدوار والصفات والنهايات والنتائج المروعة..! وكما يقال ( لكل فرعون موسى ) ، فأن فرعون مصر قباله موسى نبي الله وكليمه عليه السلام ، والطاغية يزيد بن معاوية قباله الأمام الحسين عليهم السلام ، وطاغية العراق صدام الزنيم قباله الشهيد محمد باقر الصدر والعلماء الشهداء جميعا رضوان الله عليهم. كل أولئك الطغاة مارسوا اسلوب الإستخفاف بعقول شعوبهم فأشاعوا الفاحشة ، زيفوا الحقيقة ، اشاعوا الخوف والرعب ، سخروا من الصالحين وحاربوهم وقتلوهم وعذبوهم ونكلوا بهم ، فكانت النهاية بشعة ومروعة وليس نهايتهم فحسب بل عادت الكارثة على الأمة التي صدقت كذبتهم ورضيت بهم وسارت بنهجهم ولم ترفع السيف بوجههم..!
ولهذه النتيجة آثارها الخطيرة والتي لايمكن معالجتها بسهولة وقد تكون مستحيلة إلا بمعجزة إلهية أو برحمة من الله تعالى على يد نبي أو إمام معصوم أو عبد صالح أخلص عمله لله وحده.
والقضية الأبشع في هذا المسلسل المرعب أن الحاكم الذي يجلس على أطلال الطاغية الهالك لم يتعظ بتجربة سلفه وينسى نفسه فيرتمي في أحضان الشيطان ليلقنه الدرس كما لقن الطاغية الذي قبله فيتحول الى مارد جبار يستخف بعقول الأمة ويتعالى عليهم ويسخرهم عبيدا وخولا ويصادر إرادتها فتهون عليه كرامتها.
وهذا مايحصل في العراق اليوم بعد سقوط طاغية العصر فجميع من أرادوا حكم العراق ارتموا بأحضان شيطانهم واستاذهم ( أمريكا ) تعلمهم وتمنيهم فيصدقون قولها وينفذون أوامرها ويتسابقون لإرضائها فتفسح
لهم الطريق لنهب الثروات وتنشأ لهم الفضائيات ووسائل الإعلام وتعد لهم الناطقين بإسمهم وتدربهم على تزيف الحقائق فيسود الجهلة والصبيان ليتحول النزق فيهم الى فرعون جديد.
مقالات اخرى للكاتب