هذا الجرح العراقي ما زال ينزف منذ ربع قرن بالتمام والكمال، ويحتفل اليوم الجيل الثالث من العراقيين باستمرار هذا الجرح الحاد والمؤلم شديد الأذى والخطورة، فقد رحل جيل الاجداد الذين كانوا على قيد الحياة عندما تم فرض الحصار على الشعب العراقي في اب- اغسطس عام 1990، وبعض الشيوخ والعجائز من العراقيين غادرونا بسبب نقص الأدوية التي قُطعت عن العراقيين بفعل العقوبات الدولية التي فرضت على العراق وتم تطبيقها بقساوة وتطرف لا مثيل له.
ومن المعروف أن العائلة العراقية غنية بجميع التفاصيل، وأن الثروات التي يختزنها هذا البلد قد منحت الناس الحياة الكريمة وأن كل شيء في العراق متميز ويختلف عن بقية دول الجوار، ولأن اعتماد العراق على النفط بدرجة كبيرة جدا في اقتصاده الذي يوصف بالريعي فإن توقف صادرات النفط ومنع دخول أي شيء للبلاد قد تسبب بكارثة حقيقية، وسرعان ما اخذت تترك اثارا دامية وإن تسلسلت في درجات الايذاء الذي اصاب الملايين من العراقيين.
رحل الجيل الأول الذي عصف به الحصار المدمر لأسباب عديدة من بينها نقص الادوية والغذاء، وبدأ الجيل الثاني يتعرض لهذا الحصار فتوزع بين المتأثر باليورانيوم المنضب الذي خلفته الاسلحة الأميركية التي اسقطوها على مدن العراق، ليعبث اشعاعها بالأطفال والشيوخ والشباب، واتسعت دائرة الاصابات السرطانية في مدن العراق وبنسب غير مسبوقة على الاطلاق، ولأن الحصار منع استيراد الادوية فقد صال وجال هذا المرض وغيره ليحصد ارواح العراقيين.
وأنهك الجوع الكثير من العراقيين ولم يتمكن غالبية اطفال العراق من الحصول على الحليب الذي يجب أن يتناولوه، وضرب الحصار مفاصل خطيرة في التعليم والبيئة والصحة وكل شيء في هذا البلد.
وبينما تستقبل المقابر ضحايا الحصار فإن الغربة بدأت تستقبل ولأول مرة بتاريخ العراق اعدادا كبيرة من المهاجرين الهاربين من سخط الحصار ودماره، فكانت الوجبات الاولى من المهاجرين، من اناس بسطاء وعلماء وكفاءات بمختلف الاختصاصات، ومنذ تلك الفترة بدأت عاصفة تصحير العراق من علمائه وكفاءاته العلمية ومثقفيه.
زحفت الامراض البيئية واستولت الكثير من غيوم الجهل على اهل العراق ومدنه، وكان نصيب الجيل الثاني من عراقيي الحصار التشرد والاختطاف والقتل، فأصاب ذلك الزلزال المتواصل الكثيرين ومن مختلف الفئات والطبقات والأعمار.
مضى ربع قرن على بداية الحرب الشرسة التي يتعرض لها العراقيون، قدموا خلالها الكثير من الضحايا والخسائر، والمشكلة أنهم يغطسون اكثر في وحل لا يعرفون مدياته ومتى يتوقف قطار الدماء والقتل والتشرد والخراب في مختلف مفاصله وبجميع فصوله.
مقالات اخرى للكاتب