لا مراء من أن الإنسان تراكمي في معرفته، وأن المعارف التي بين أيدينا هي نتاج الذين سبقونا الى اللحظة التي نحن فيها..ولا مراء من أن هذا التراكم آلت ملكيته الينا بقصد الإنتفاع من ما يناسبنا منه، وبقصد رفض ما يضرنا منه ، وترك عن ما لا يفيدنا..
إذن نحن أمام ثلاثة مواقف مع المعرفة السابقة للحظتنا، هي مواقف الأخذ والرفض والترك، مما يعني أن علاقتنا مع الماضي نسبية إستنادا الى نسبية المنفعة..
علاقتنا مع الماضي في أساسها مبنية على هذا الأساس، أساس المنفعة، لكن المنفعة تتحول الى شأن عقيدي أذا وجدنا أنها تتجاوز إطارها لتبني منظومة قيم متكاملة..
التراكم المعرفي الذي أتحدث عنه هو الذي يقود حركتنا الى أمام، إذ لا يمكن الإنطلاق الى أمام من نقطة غير معلومة، ولا يمكن أن نتحرك بغير هدى، ومن المؤكد أن إتجاهات حركتنا إذا لم تستند الى تراكم معرفي، ستكون غير مضمونة النتائج، بل ستؤدي بنا الى نتائج كارثية في أكثر الأحتمالات..
هذه المقدمة أجدها ضرورية كي أدلف منها الى موضوع مأسسة الدولة..
مأسسة الدولة موضوع جوهري في بناء مستقبلنا، وثمة مفهوم غاب عن أذهان الساسة في معنى السلطة، فالسلطة عند معظمهم مشروع للحكم ووسيلة للنفوذ والسلطان، وهذا مفهوم تغالبي لا يبني دولة..
في المفهوم الأسلامي للدولة يمكن أعتبار السلطة أو الحكم، مشروع عام تتملك الأمة منافعه بالتساوي، الحاكم والمحكوم على قدم وساق، مشروع لا يتاح فيه للحاكم فرصة تحويله الى ملك عضوض، كما حصل بعد وقبل أول تجربة للحكم العادل في الكون قادها أمير المؤمنين علي (ع)، بعد أن أسس الرسول الأكرم(ص) مؤسسة الدولة العادلة الأولى للبشرية..
في مشروع الدولة العادلة يفر الصالحين من تولي الحكم، لأنهم يدركون أن مهمة العدل من أعقد المهام، فهم على بينة من أنهم سيولون أمرا يفترض بهم أن يسيروا فيه بطريق ينطبق والمعايير التي وضعها الخالق سبحانه وتعالى، كما أنهم يعون أنهم ملزمون أن يراجعوا دوما ما يفعلونه مع تراث ضخم من الوصايا والتعليمات التي تركها فيهم رسولنا الأكرم(ص) ومن بعده منفذ أول نموذج في الحكم الصالح بعده، وأعني به الإمام علي (ع)
وحسبنا دعوة الأمم المتحد المتحدة في تقريرها السنوي لعام 2002، والصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الخاص بحقوق الإنسان وتحسين البيئة والمعيشة والتعليم، الدول العربية إلى اتخاذ الإمام علي بن أبي طالب(ع) مثالاً لتشجيع المعرفة وتأسيس الدولة على مبادئ العدالة. وقد احتوى التقرير المذكور الذي اشتمل على اكثر من مائة وستون صفحة، على ست نقاط رئيسية أوصى بها الإمام أمير المؤمنين قبل أكثر من (1000) عام مثلت العدالة والمعرفة وحقوق الإنسان.
أهم ما جاء في التقرير هو كيفية تعيين الحكام والمحافظين والمدراء في الدولة!!! وكيفية ان يكونوا عدولاً مع الشعب بل وتحمل المعارضة، فيذكر التقرير إرشادات الإمام لرئيس الدولة نموذجاً في الطريقة المثلى حيث ذكر التقرير: « اختر للحكم بين الناس افضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور ولا تحكمه الخصوم ولا يتمادى في الزلة, ولا يحصر من المضيء إلى الحق إذا عرفه. ولا تشرف نفسه على طمع. ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه وأوقفهم في الثبوت وأقلهم تبرماً بمراجعة الخصم وأصبرهم على تكشف الأمور، واحرمهم عند اتضاح الحكم. ممن لا يزدهيه إطراء ولا يستمليه إغراء وأولئك قليل».
كلام قبل السلام: سلام عليك أبا حسن، عرفوك وتركناك..
سلام..
مقالات اخرى للكاتب