ورد في كتاب "يوم الثلاثاء " لعميل الموساد الإسرائيلي "أساف ليفي " الملقب ب"آينر جاك "، أو أنوير بيك"آرام انوير "، بالتركية ، أن رئيسه النكد في الموساد الإسرائيلي "فيشيل الطويل "، بعث له من يستدعيه من المزرعة الصغيرة "الموشاف " التي كان يقيم فيها مع صديقته الحامل ، بعد أن قرر الإستقالة من الموساد لعدم إتفاقه معه ، ولما ذهب إليه قسرا ليعرف ماذا يريد ، فوجيء به يعطيه صورة أحد الأشخاص ، وعندما سأله عن صاحب الصورة أجابه أنها صورته ، ما أثار إستغراب ليفي .
لم يترك فيشيل الطويل مرؤوسه السابق يسرح طويلا ، وقال له أن الشرطة قتلت الليلة الماضية لصا حاول السطو على أحد بنوك تل أبيب ، وتبين أن اللص من أب تركي وأم أرمنية ، كما صعقه بأنه سيكون منذ الغد هو ذات اللص .
إرتعشت اوصال ليفي وشعر بالخوف يسري في عروقه ولكنه لم يستطع مخالفة فيشيل الطويل ، وفجاة قال فيشيل مخاطيبا ليفي : أنظر إلى هذه المرآة ، فنظر الرجل وإذا به يجد وجهه يستطيل ويتضخم ، وبعد ذلك طلب منه أن ينظر مرة أخرى إلى مرآة مكبرة مقابلها صورة لص البنك المقتول.
بعد ذلك أخبره الطويل بالمعلومات الكاملة عن اللص وقال له : منذ الغد سنبدأ بإعدادك بشكل عام لتظهر لأول مرة على الناس ثم تختفي لمدة أسبوع ، وعليك أن تتعلم اللغة التركية وبعض كلمات من اللغة الأرمنية ، ومن ثم تتسلم عملك.
وعندها قال آينر جاك : وهل أستطيع خلال أسبوع تعلم اللغة التركية ؟ وأسافر إلى تركيا كرجل تركي ؟ فرد عليه الطويل : لن تسافر إلى تركيا ، لأن اذكى إنسان لن يتعلم لغة غريبة عنه في أسبوع ويظهر بمظهر اهلها.
وسأله آينر جاك : إذن إلى أين سأسافر ؟
فأجابه الطويل : إلى باريس ، وهناك ستقيم إتصالات مع تجار الأسلحة وتتحول إلى سمسار كبير للأسلحة الكبيرة مثل الطائرات والمدافع وأجهزة الرادار ، فسأله آينر جاك : ولمن سأوردها ؟ فأجابه : آمل من آينر جاك ان يكون ذكيا ونشيطا ليصبح المورد الرئيسي للسلاح ، لسلاح الجو المصري.
بعد ذلك تم تلقينه أصول المهنة ، وأن عليه التظاهر بالإسلام أمام المسلمين الفرنسيين وأن يطلب من المصريين عند التعرف عليهم ، ان يعلموه أصول الدين الإسلامي وشعائره الصحيحة ، كما عرض عليه بعض الصور لكبار الشخصيات المصرية الخطيرة ، طالبا منه الإبتعاد عنها قدر الإمكان أمثال زكريا محيي الدين ووزير الداخلية ، لكنه أخبره ألا يخاف من عبد الحكيم عامر ، ولا من أي من أعوانه لأنهم جميعا جنود في أفكارهم وأعمالهم، كما حذره من الضباط المصريين الذين تلقوا دورات تدريبية في موسكو.
عند إستقراره في باريس في العام 1955 وجد أن الأرضية مفروشة له بالزهور والورود بسبب رعاية الموساد له وتسهيلهم لأعماله وتحركاته ، ما جعله يتحول وبسرعة قياسية إلى تاجر سلاح كبير وصاحب نفوذ ، بعد ان كان مهرب سلاح تركي غير معروف ، وعندها طلب منه الطويل العودة إلى الكيان الصهيوني عبر تركيا ، وبعد أن إلتقاه ، طلب منه المغادرة إلى باريس في اليوم التالي للإستقصاء عن صفقة الأسلحة الروسية لمصر"الصفقة التشيكية" كما طلب منه شراء معدات الأسلحة التي تركها البريطانيون في ألمانيا بالقرب من الحدود الفرنسية وان يبيعها لمصر.
في الثاني من أكتوبر عام 1955 إلتقى آينر جاك مع مفوض المشتروات لسلاح الجو المصري مدكور أبو العز في باريس ، وذلك للتعاقد على شراء هذه الأسلحة ، ودفع أبو العز ثمنها مليوني دولار وقبض عمولة قدرها 7% ،على أن يتم نقلها إلى مصر على نفقة آينر جاك ، وبعد إتمام الصفقة أعد جاك سهرة حمراء لمدكور أبي العز وإستأجر له فتاة سويدية شقراء ليقضي منها وطره بينما كان ضابط مصري آخر وزميل له يضاجعان فتاة مراكشية سمراء ، وقد اصبح هذا الضابط فيما بعد قائدا للقوة الجوية المصرية.
وفي 31 ديسمبر 1955 دبر فيشيل الطويل صفقة سلاح ليبيعها آينر جاك إلى الثوار الجزائريين ، وكانت الخطة تقضي بإبلاغ السلطات الفرنسية بذلك ، لتقوم فرنسا بطرده ، وحسب التقديرات فإن مدكور أبو العز سيسعى لدى القاهرة لتستضيف عميل الموساد آينر جاك وهذا ما حصل بالفعل.
وفي الحقيقة كانت الخطة أيضا ، تقضي بخداع الثوار الجزائريين لأنهم سيدفعنو الثمن مقدما ولكنهم لن يتسلموا السلاح ، ولأن عملاء الطويل يحظون بحب الفرنسيين فإن فيشيل كان يأمل ان تقوم فرنسا بإهداء الصفقة إلى الكيان الصهيوني ، وتمت الصفقة ووقعها آينر جاك مع تاجر سلاح مغربي.
بعد تشكيل الحكومة الفرنسية الجديدة آنذاك ، جاء إثنان من رجال المخابرات الفرنسية إلى آينر جاك وأبلغاه بأمر طرده من فرنسا خلال 24 ساعة ، وكان الموساد قبلها قد أخذ صورة عقد الصفقة وسلمها للمخابرات الفرنسية ، بعد أن أبلغهم أن هذا التاجر يهودي لكنه ليس منهم ، وقد إستطاع جاك بواسطة صديق فرنسي له في وزارة الخارجية الفرنسية ، إقناع المخابرات الفرنسية أن تمدد له 24 ساعة اخرى لتصفية اعماله.
في تلك الأثناء وحسب الخطة المرسومة كان هناك وفد مصري برئاسة مدكور أبو العز ، وعندما إلتقوا بجاك أخبرهم انه سينتقل إلى سويسرا لأن فرنسا أبلغته بقرار طرده لأنه صديق العرب ويقوم بتزويد الثوار الجزائريين بالسلاح ، لكن أبو العز إنتفض وقال له : هل تسمح لي بأن أدعود بإسم سلاح الجو المصري لزيارة بلادي ، وعندها سترى ماذا سنفعل بالسلاح الذي إشتريناه منك ، ولم يجب جاك لكنه احس بالراحة النفسية لنجاح خطة رئيسه الطويل وقال له : يسرني أن ألبي دعوتك.
وفي 26 مارس عام 1956 ، وعندما كان جاك يحل ضيفا على سلاح الجو المصري ويقيم في فندق القاهرة ، جاءه من يبلغه ان قائد سلاح الجو المصري صلاح نصر ، يريد مقابلته في التاسعة صباحا وذلك بعد ان مضى على وجوده في مصر ثلاثة أسابيع.
بعد المجاملات المعتادة والمديح لنوعية السلاح الذي كان يبيعها جاك لمصر ، عرض عليه وسام الشرف من سلاح الجو المصري ، لكن المحتفى به الخبيث أجابه بسخرية مخيفة : لقد أخذت منكم أوسمة شرف متعددة ، أوسمة من النوع الذي أحبه الأخضر والأزرق "يقصد المال". وعندها رد عليه نصر : حسنا فعلت ، إنك لم تأخذ نفس الوسام من إسرائيل ، والواقع انهم يدفعون اكثر منا فقد كانوا بحاجة ماسة إلى هذا السلاح اكثر من حاجتنا إليه .
كانت سمعة جاك بين الأوساط العسكرية المصرية طيبة لأنه كان يمنحهم العولات ويوفر لهم المشوبات الروحية والبغايا في باريس ، وهذا ما جعله موضع إحترام وتبجيل من قبلهم في القاهرة ، وقد كانوا يحرصون على إصطحابه معهم لأخطر المواقع العسكرية المصرية ، كما كان يفعل قائد الأسطول الجوي وعبد السلام دغيدي اللذان إصطحباه معهما إلى مطار ألماظة الحربي ، ليطلعوه على القزات الجوية التي كانوا يفاخرون بها ، وكان هو شخصيا يرسم كل شيء في مخيلته ليعيد ترتيب الأمور فور عودته ليلا ليبعثها برسائل إلى الموساد ، وكان يرسل الرسائل المشفرة والمصورة إلى "زيجفريد " ، وكيل بورصته في زيورخ ، ومن ضمن هذه الرسائل " إلى المسؤول من روما ، يبدو ان سلاح الجو المصري قد فشل في إستيعاب الطائرات النفاثة إن 60 ، طائرة فقط هي الجاهزة للعمل ، طائرة الميغ 15 لا تصلح للمعارك الجوية مع الطائرات المقاتلة الأخرى."
كان ل آينر جاك دور كبير في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 ، وقد جاءته الأوامر للسفر إلى الكيان الصهيوني وقد خدع مرافقه المصري واتم رحلته إلى هناك من تركيا ، ليجد مدير المخابرات بإنتظاره لتكليفه بالإتصال مع محمد نجيب وإعطائه ورقة صغيرة بناء على اوامر من رئيس الموساد لمساعدته في إعادته للحكم ، حيث كان يقبع في منزله تحت الإقامة الجبرية ، ولكنه رفض المهمة لأسباب عديدة ،بيد انه عاد ومعه جهاز لا سلكي هدية معه إلى مصر، وقد جرى تكليف عميل الموساد بإعادة تسليح الجيش المصري عام 1957، وقد نفذ المهمة على أكمل وجه وجهز الجيش المصري بالسلاح الذي لاجدوى منه .
وحتى لا تطول الحكاية وتخرج عن مسارها فيما يتعلق بفرنسا والموساد فإن هذا العميل هو المسؤول عن هزيمة مصر في حرب حزيران 1967 ، حيث رتب حفلة ماجنة ليلة العدوان للطيارين المصرين الذي لعبوا في آخر السهرة لعبة "عريس وعروس "، ميغ وميراج، وهكذا يعبث الموساد في اوربا وكانت فرنسا نموذجا ،فهي التي أنجزت القنبلة النووية الإسرائيلية ، وهي التي لم تخلص للعراق في برنامجه النووي ، وقد سرق الموساد آلاف الأطنان من اليورانيوم وهربها إلى الكيان الصهيوني ، وها هو حاليا يعيث فسادا في فرنسا ويلاحقها في إفريقيا بإسم فرعه الخارجي السري داعش"ISIS".
مقالات اخرى للكاتب