انحنى شعب جنوب افريقيا بسوده وبيضه بالكامل وانحنت شعوب العالم كلها إجلالا واحتراما وحباً امام واحد من ابنائها الأبرار الكبار الذي برهن في السراء والضراء على قدرة الإنسان على التفاعل الواعي والإيجابي والفعال مع أحداث الماضي لشعبه وتجارب الشعوب الاخرى ووعى الواقع المعاش بجزئياته الكثيرة والمعقدة ومهام وخطوط سير المستقبل. وبهذا الإدراك العميق للعلاقة الجدلية بين الحرية والضرورة تصرف المناضل المقدام الذي قضى 27 عاماً في سجون النظام العنصري الفاشي في جنوب افريقيا وعانى من التعذيب والحرمان وتعلم الصمود امام المحن الشخصية والتي شملت شعبه لكي يتسنى له المشاركة في تحرير شعبه من عبودية العنصرية الظالمة ودعم نضاله لانتزاع حريته التي لا تمنح بل تنتزع بالنضال العنيد والصبور. وقد أدرك بأن الحرية هي ادراك الضرورة غير المجردة وغير الجبرية بأي حال . لقد كان مانيلا مثقفا رفيع المستوى ومناضلاً وطنياً وأمامياً مخلصا لشعبه والإنسانية في آن واحد. لقد تبنى مانديلا منذ البدء فكرا مادياً جدليا ووعيا مادياً بحركة التاريخ وفعل القوانين العامة وأدرك الأهمية القصوى للربط العضوي بين الشروط الذاتية في نضال شعبه والشروط الموضوعية والتي تجلت في سلوكه ونشاطه السياسي قبل وأثناء وبعد السجن وحين اصبح رجل دولة كان من طراز رفيع المستوى وغير تقليدي. ففي سلوكه اليومي بعد تحرره وتحرر شعبه جسّد بألمعية رائعة جملة من السمات الاساسية التي ساعدت شعبه على تذليل صعاب المرحلة الاولى من التحرير وإدارة الصراع بين شعبه الأسود والحكام العنصريين الذين أذاقوا شعبه مر العذاب والحرمان . السلطة لدى مانيلا لم تكن الهدف بل الوسيلة والسلاح في النضال من اجل التغيير الديمقراطي لصالح المجتمع. فلم يكن عاشقاً للسلطة بل كانت اداة لتحقيق هدف أساسي هو الانعتاق والحرية والمساواة لكل شعب جنوب افريقيا وليس الثأر والانتقام من الحكام العنصريين البيض وإغراق البلاد من جديد بالدم والدموع. وبهذه السياسة الحكيمة أعطى مانديلا دروساً غنية في الاعتراف والاحترام المتبادلين والثقة بالنفس وفي التعامل التسامحي مع مضطهدي شعبه السابقين. وحين نجح في وضع قطار جمهورية جنوب افريقيا على سمكة المبادئ الصحيحة وهو على رأس الدولة المدنية الديمقراطية، رفض الترشح ثانية وترك السلطة وفسح في المجال للمنافسة بين رفاقه في النضال. وبهذا أرسى مبدأ عدم احتكار السلطة وعدم الاعتقاد بعجز الآخرين على قيادة البلاد وعزز الثقة بمن يخلفه في المنصب، كما أرسى مبدأ التداول السلمي والديمقراطي للسلطة. ورغم كا الصعوبات نقل مانديلا بلاده الى شاطئ السلام. ولكل ذلك وغيره من المنجزات عبر الناس في جنوب افريقيا وفي العالم عن حزنهم العميق لوفاته وغيابه النهائي عن المسرح السياسي والفكري والاجتماعي وعن احترامهم لهذا الرجل الكبير بعيون شعبه وشعوب العالم والذي قدم نموذجاً واعياً ومدركاً لدور الفرد في التاريخ. وبالضد من هذه الشخصية العصامية يعرف العالم اليوم ومنذ سنوات شخصاً اخر لم يع الواقع الذي يعيش فيه شعبه ولم يقدر قدراته الفعلية وبالغ فيها كما لم يدرك ان الحرية هي ادراك الضرورة ليتجنب المطبات الهائلة التي سقط فيه. ولأن الرجل لا يحمل فكراً نيراً وحراً بل فكرا ظلامياً واستبدادياً لا يقبل بالآخر. رجل تعوزه الثقافة الديمقراطية وإدراك العلاقة الجدلية بين ماضي الشعب وحاضره وما يفترض ان يكون خط سير مستقبل هذا الشعب. واصطدمت إرادته الذاتية ورغباته بقوانين التطور الاجتماعي وبإرادة الشعب الجريح المستباحة حقوقه ودماؤه، انه رئيس وزراء العراق، انه نوري المالكي. لقد ساهم بسلوكه وفرديته ومن ثم استبداده وممارسته سياسة فرق تسد واعتماده على نهج الطائفية السياسية المقيت كأداة في تكريس حكمه لدورة ثانية وهو يسعى اليوم لدورة ثالثة ستكون وبالا على الشعب ان حقق ما يريد. لقد نشأت الظروف المناسبة بعد سقوط الدكتاتورية لإعادة لحمة الشعب العراقي بكل مكوناته القومية والدينية والمذهبية والفكرية، كما فعل مانديلا، ولكنه عمل خلاف ذلك تماماً مما تسبب في إغراق العراق ومن جديد بالدم والدموع وبالمزيد من القبور والمعوقين. العراق يقف امام رجل يعيش ظلاميته بكل جوارحه ويدفع بالشعب نحو ثقافة صفراء ووعيا مزيف وظلامي مناهض لروح ومبدأ المواطنة الحرة والمتساوية. شخصية بائسة عبرت عن رفضها للديمقراطية وحقوق الانسان وحقوق المجتمع حين أكد العمل بقاعدة المستبدين الذين لا يعرفون معنى لتداول الديمقراطي للسلطة حين قال ( أخذناها بعد ما ننطيها، هو ليش اكو واحد يگدر يأخذه )، وهي نفس القاعدة الاستبدادية التي قالها صدام حسين حين ذكر ( جئنا لنبقى). والجميع يعرف مصير صدام حسين في مزبلة التاريخ، وهو مصير كل المستبدين. بقدر ما حصد مانديلا حب واحترام شعبه وشعوب العالم، بذات القدر يحصد نوري المالكي اليوم كره غالبية الشعب العراقي وشعوب المنطقة لزرعه الشقاق والنفاق في المجتمع ولكونه يمارس سياسة الثأر والانتقام ضد أبناء العراق وبناته وسمح بذلك لأن كثر القوى رجعية ووحشية و تطرفا استثمار هشاشة الدولة وهزال الحكم لقتل المزيد من البشر بالعراق. ومن الطبيعي ان سيأتي اليوم الذي لن ينفع نوري المالكي الندم وهذا اليوم آتٍ لا ريب فيه.
مقالات اخرى للكاتب