تتمتع السلطة بشبكة مغرية من الامتيازات يحجب بريقها نظرة السياسي عن رؤية الثمن الفادح الذي يتوجب دفعه للوصول أو محاولة الوصول إلى الظفر بها ويمكن أنسنة السلطة عبر تصورها كائناً يحمل مستوىً متقدماً من كاريزما الحضور الاستثنائي وتعبئة الاتباع والمريدين من خلال سحبهم إلى بؤرة هيمنتها في رؤية تعتمد الخداع المتبادل حيث يعتقد الساسة أنهم يحركون أحجار السلطة من أعلى جبال القرارات فيما تثبت السلطة في النهاية الدائمة للكائنات السياسية المؤقتة أنها كانت تخدع من يحاول خداعها لذلك لم يكن من السهل على المتصدين للشأن السياسي بضرورة الاقتناع بترويض الذات السياسية على قبول الابتعاد عن الأضواء وما يرافقها من القوة والقدرة والتأثير والتحكم .
وهذا الأمر يعني الذهاب إلى هامش المعارضة بما يتضمنه من الضوء الباهت والرضا بمنطقة الظل وخسارة الشعور بأهمية التأثيرات المترتبة على التواجد في عوالم الظل وهذا المعنى قد لا يكون كبيراً في تطورات التجارب الديمقراطية وتقسيم ادوار الأهمية بين الفرقاء لكنه يتوضح ويتجلى ويبدو أكثر ضراوة في التجارب الناشئة ومن هنا تتشظى صراعات البحث عن السلطة وتبرير مختلف السلوكيات للوصول إليها وقد نخطئ الظن حين نعتقد انه بالإمكان الزهد تماماً بما تتضمنه السلطة من إغراءات ومكاسب تتحدد في الجانب السياسي فقط فالنزوع نحو الاستئثار بالسلطة بشتى أنواعها طبيعة إنسانية أو كما يعبر عنها ميشيل فوكو في أن " السلطة ليست في مكان واحد إنها في الحارس الذي يراقب السجن بحرص شديد وفي صاحب الفرن الذي يبيع الخبز للسجن ويشعر بالفرح لأن السجن موجود " أو حتى تلك النظرة التي يقدمها للنوع الأناني في الاستحواذ على السلطة في رؤية السياب لحفار القبور وغير ذلك الكثير من الرؤى المختلفة التي تتمحور حول نقطة تبئير واحدة هي السلطة لكن وعلى الرغم من هذه المستويات السلوكية المنتظمة في الطبيعة الترنسندنتالية للسلطة إلا انه بالإمكان تهذيبها وتنظيمها من خلال خلق الموازنة ما بين تقاسم الأهمية في السلطة ورقابتها .
ومهما تكن الظروف فأن نمط الحياة السياسية هو الذي يمنح الأدوار استقلالها وترتيبها ضمن درجات سلم الأهمية مع أن العملية تكاملية تخضع لضمانة الفصل بين السلطات وتجنب التداخل في الصلاحيات غير أن طبيعة المجتمع العراقي عموما تنجذب بصورة تلقائية نحو القطب المغناطيسي لمركز السلطة الذي هو الآخر- أي المركز ــ يعمل على ترسيخها من خلال تقزيم الأطراف وحصر مصادر القوة والقرار في قبضته يساعده في ذلك الفهم الخاطئ لدور المعارضة البناءة في اللهاث خلف فتات الامتيازات التي توفرها الشراكة غير المنسجمة التي لم تقنع أصحاب السلطة مثلما لم تقنع الفئة المرشحة للعب دور المعارضة وقد نجد العذر في أن الساحة العراقية ليست مهيئة لتقبل العمل المعارض السلمي ولكن من الجانب الآخر تقع المسؤولية على المتصدين للعمل السياسي في بلورة المفاهيم الخلافية وتغذية الشارع بالفهم الحقيقي لأهمية المعارضة بوصفها المشروع البديل عن إخفاقات السلطة والرقابة التي تحول دون التمادي في الانحراف وتصحيح الخطوات الخاطئة بذات المستوى الذي يتم فيه دعم وإسناد الخطوات الناجحة والصحيحة فألامر في نهاية المطاف هو الوصول إلى السلطة عبر طرقها المشروعة وهي جعل الحياة أجمل والتنافس حول إيجاد الطرق ألأقصر والأفضل لتحقيق الحياة المناسبة للجمهور .
إن إعادة ترتيب طرفي المعادلة ( السلطة + المعارضة ) وخلق حضور كاريزمي للمعارضة ليس بالأمر الصعب لكنه بحاجة إلى إيمان السياسي أولاً بحاكمية التداول السلمي للسلطة وبعد ذلك تفعيل برامج العمل المعدة لمعالجة الملفات ومد جسور التواصل مع المواطن باعتباره الجهة التي ترجح عمل كل فريق وتمنحه المشروعية التي تترجمها صناديق الاقتراع حيث أصبحت سلاح الشعب الذي من خلاله يثيب أو يعاقب وبهذا تتشكل ملامح خارطة سياسية تعتمد الانجاز المستند إلى الرؤية الواضحة والإخلاص في تنفيذ الوعود وفي مقابل ذلك فلن يهنأ المنشغل بملذات السلطة ليس فقط عند نهاية فترة حكمه المحدودة بل وحتى أثنائها بعد أن أخذت المظاهرات تمثل ضغطاً يطيح بأقوى الإدارات وبعد أن استوعبت الجماهير من تجارب الماضي درساً مفاده أن الحرية تستحق جميع التضحيات مثلما تمادت السلطات في نسيان أو محاولة نسيان التهديدات الشعبية بواسطة الرهان على تنفيس الأزمات وسياسة تسويف الوعود والاعتناء باعداد سياسات كبيرة وضخمة تجري على شاكلة النسق " السستام " الذي يُشعر الفرد بعبثية مواجهة النسق لأنه يمتلك القدرة على احتواء الأزمات مهما كان نوعها وأن بإمكانه تحويل الإخفاقات إلى مميزات والعيوب إلى محاسن من خلال سيطرته المطلقة على المضمار وقوانينه التي لا تسمح بالخروج عن تلك المعايير بما تحمله من هوامش حركة ضمن إطار المسموح به أو كما يعبر عن ذلك نعوم تشومسكي في رؤيته الساخرة " إفعل ما تريد ما دمت تفعل ما نريد " وبذلك فأن مستوى متقدماً من إفراغ مفهوم المعارضة من المحتوى يجري العمل به لا يمكن تجاوز تأثيراته في المنظور القريب حيث ما تزال معظم القوى السياسية تعمل وفقاً لعقلية المعارضة وتقتضي عملية تغيير الذهنية السياسية إلى المزيد من الوقت لإعادة التأقلم المتوازن مع معطيات المرحلة الجديدة بما تستلزمه من ضرورة الاعتماد على الخبرات الإدارية والمهارات الدبلوماسية ووضوح وجهة النظر إزاء مفاهيم معقدة مثل الهوية ، الشراكة ، الاختلاف ، المصالح .. إلى غير ذلك مثلما تتطلب المرحلة الحرجة من مستقبل الدولة العراقية إلى إعادة روح الاتفاق حول مفاهيم السيادة ، الحرية ، حقوق الإنسان ، العدالة .. والشق الثاني يتضمن قضايا جوهرية تستند إليها فلسفة الدولة فيما ترتبط مفاهيم الشق الأول بالأداء الحكومي والفارق بينهما يؤشر إلى الفاصل بين الاستراتيجيه بمعناها الأعم وبين الخطط التي تهدف إلى تحقيق تلك الرؤية في الوقت الذي يشير إليه واقع الحال العراقي إلى تشبث القوى السياسية بالحفاظ على امتيازاتها التي استحقتها عن طريق تضحياتها في مواجهة الدكتاتورية إبان مرحلة الاستحقاقات الثورية مع أننا هنا نؤشر حالتين أولهما أن النخب السياسية قد حصلت طوال الفترة التي أعقبت سقوط الدكتاتورية ولحد الآن ما يوازي تكريمها على ذلك التاريخ المشرف سيما وأن تجارب عملاقة من تاريخ المواجهات التي انتهت إلى نصر المستضعفين تركت مقاليد الحكم لغيرها لتقدم نموذجاً عملياً للتداول السلمي للسلطة ولعل تجربة جنوب إفريقيا ورائدها نيلسون مانديلا كانت الأكثر تميزاً في هذا المجال ، أما الأمر الآخر فان تسارعاً تكنولوجيا واقتصادياً وأساليب إدارة حديثة تتناسخ يوماً بعد آخر وثورات متلاحقة في عوالم الاتصالات وتقنيات تبادل المعلومات التي تؤسس تبادلاً للأدوار وما تلعبه وسائل الاتصال الاجتماعي لذلك فأن جميع هذه المفردات وغيرها أصبحت تشكل قاموس اللغة الجديدة في إطار عولمة لا تصمد النظم الثابتة أمام انهيارات وتحولات ومخاضات الولادات لعالم يشهد تغييراً مجنوناً تتحرك فيه الأحداث وفق سياقاتٍ أخرى غير تلك الحركات التقليدية وتخترق الأساليب القديمة ولا يمكن للنظريات الراكدة أن تتواصل مع تغيرات المد والجزر السياسي وهنا لن تكون الأمور تحت طائلة الاختيار وسوف يكون من المتعذر حتى في إطار عملية الحفاظ على التدهور مثلما نراه الآن يجري في سوريا على سبيل المثال وتأسيساً على هذا الفهم فأن النخب السياسية الحاكمة في العراق لم تستطع أن تكتسب مثل هذه المعطيات التي تؤهلها في التماهي ومد الجسور مع الحركة المتسارعة فلم تشفع الموازنة الخرافية لأكثر من عام أن تصلح الأوضاع المتفاقمة وفشلت الدبلوماسية العراقية في تحقيق الحد الأدنى من الخطاب الموحد لدولة العراق حين نجحت في رفع أكثر من علم على سارية سفارة واحدة وبقي العراق مكبلاً بقيود الفصل السابع من العقوبات الدولية وغير ذلك الكثير مما لا يتسع المقام لذكره ذلك بأننا مازلنا نجهل طريقة وقوانين اللعب في العالم الجديد بعد أن دخلنا مضاميره حاملين عدة الذهول فهذا العالم المستنفر للفوضى جعل سلاحه الجديد الهاء الشعوب وحكامها بالإشغال المتغطرس للفتن وزرع فيروسات الشقاق والخلاف وتحريك الجمر الراقد تحت رماد الهدوء النسبي وربما تشير هذه الإخفاقات إلى ضرورات التغيير.
إننا وبعد مرور أكثر من سنه على المظاهرات ومن خلال مراجعة فاحصة للوضع العراقي نجد إننا نعود دائماً إلى " تيه سيناء " فالعملية السياسية تفزع إلى المؤتمرات والاجتماعات والمصالحة الوطنية تكتسب المزيد من الجماعات المسلحة فيما يزداد الشارع عنفاً والخدمات تتراجع لأن ما يعطى من الحكومة باليد اليمنى يأخذه الفساد باليد اليسرى وهذه العملية التي احترفها اللصوص الأتقياء أصبحت تشكل مؤسسة تواجه مؤسسات الدولة والياتها وعما قريب ستنطلق المظاهرات من جديد مطالبها الأمن والخدمات والرفاه وبالمقابل سوف تطلب الحكومة فرصاً جديدة لتنفيذ برامجها وهكذا وإذا أردنا أن نفهم حقيقة ما يجري في العراق فما علينا سوى أن نقرأ بمزيد من الاهتمام مسرحية " الدوامة " لجان بول سارتر .
مقالات اخرى للكاتب