وجه يفيض سلاما ، تعلوه ابتسامة مشرقة ، لا تملك حين تراه إلا أن تحبه من أول وهلة ، قلب مملوء بالإيمان ، وعقل متوقد لايدع صاحبه يسكن لحظة ، اشتغالاته تتمحور حول تحديث التفكير الديني ، دخل عبر كتابه الأخير وبجرأة في منطقة اللا مفكر فيه ، إنه الأستاذ الدكتور عبد الجبار الرفاعي.
ولد الرفاعي في عام 1954 حصل على مجموعة من الشهادات العلمية ، أهمها الدكتوراه في الفلسفة الإسلامية ، يمتلك رؤية فلسفية انسانية ، تنحاز للايمان والعقل ، يعمل بلا كلل منذ عقود على بسط قيم التعارف والتواصل والحوار ، ويسعى حثيثا لتحديث مناهج التفكير الديني عبر رؤية تتجاوز القراءة الموروثة ، وقراءة تواكب العصر ، وتبتكر مناهج تفكير جديدة وآليات نظر معاصرة .
تعد انجازات الرفاعي العلمية مسار جديد في تحديث التفكير الديني ، تمنحنا أفكاره الثرية ورؤاه العميقة حزمة من المفاهيم الفلسفية والعرفانية والإيمانية ، تجعلنا أكثر جاهزية للولوج إلى مستقبل واعد يعترف بانسانية الإنسان عبر مساعدته على اكتشاف ذاته وتزويده بالمعارف والمهارات والتقنيات التي تساعده على فك أغلاله التي تمنعه من اطلاق ممكناته ، تملأ روحه بالحب ، وعقله بالفلسفة ، وقلبه بالإيمان ، تحثه على الرقي برفق في معارج الكمال الإنساني.
الرفاعي كفاءة فكرية راسخة ، عرفته حلقات الدرس معلما متميزا ، كتبه مختبرات علمية لطلبة الدراسات العليا في مختلف أنحاء المعمورة ، مقالاته تفيض بالشحنات الإيمانية التي تُحدث تحولات في كيمياء الروح ، وتوقظ الإيمان القابع في أعماق الذات ، تحفز العقل على التفكير ، يدرك قارىء كتبه أو من حظي بلقاءه عمق هذا المفكر ، وسعة آفاقه الرحيبة.
قراءة في كتابه :(الدين والظمأ الانطلوجي).
عنوان آسر ، لمفكر فذ ، أشواق روح ، وسيرة قلب ، واسئلة عقل ، صوت غفران ، قاموس فكري ، ومعجم عرفاني ، سياحة فلسفية ، علوم ومعارف وفنون شتى ، مكتبة في كتاب ، نقد تحليلي أنتج حفرا في بنية أنماط التدين ، ودراسة عميقة ودقيقة في مداخلها التراثية ، وقراءة واعية في مفاعليها المعاصرة ، زاد للروح الظمأى ، معراج قلب أصابه الوله، ومتعة للعقل المتوقد ، ذخيرة نفيسة لاتقدر بثمن سيعود بها القارىء حين يقرأ كتاب الرفاعي الجديد :(الدين والظمأ الأنطلوجي).
دراسة في البعد الغائب حول طبيعة الدين وأنماطه وتجليات ظواهره ، مقاربة فكرية لتحرير الدين من خاطفيه وانقاذه من التوظيف المخيف كآلة للقتل والإبادة والتدمير واعادته إلى مهمته الأصيلة في الحياة البشرية ووضعه في نصابه الحقيقي بعيدا عن الإتجاهات المغالية في التعاطي معه نفيا نخبويا أو توظيفا ايديولوجيا .
كتاب (الدين والظمأ الأنطلوجي) رسالة لإحياء الحياة الروحية والأخلاقية تتجلى بفك الإشتباك بين المتدين وعصره من خلال طرح رؤى فلسفية عرفانية لبناء حياة تستند إلى الإيمان والعقل عبر تبني مفهوم الإنسانية الإيمانية انقاذا لإيمان الجيل في زمن توحشت فيه بعض أنماط التدين .
حفر الرفاعي في كتابه الجديد في جيولوجية الروح والعقل ، ساح في ملكوت العرفان ، حلق في فضاءات المعرفة ، أمتعتني أفكاره الثرية ، ترك في قلبي نداوة ، وفي روحي صفاء ، أعاد تشكيل منظومة أفكاري ، تابعت سيرة الرفاعي الحافلة بالإنجازات التي أوردها في كتابه ، رأيته طفلا في قريته النائية يعاني الضنك والحرمان ، رافقته صبيا في المدرسة ، أسرتني تحولاته الفكرية ، أذهلتني اعترافاته ، وجرأته في طرح الأفكار، أعجبتني اختياراته للكتب التي يقرؤها ، حين يتعرض لإغواء الكتب المثيرة.
استجابة لرغبة مجموعة من أصدقاءه كتب الرفاعي مؤلفه الجديد : (الدين والظمأ الأنطلوجي) عشرات المقالات دبجها تلامذته وعشاق القراءة حينما أصدر الرفاعي كتابه الجديد ، سكب فيه من روحه ، ووضع فيه خلاصة تجربته الروحية ، مستذكرا تحولاته الفكرية إلى أن أصبح صوت غفران كما يصف نفسه في كتابه الأخير.
يعني الرفاعي بالظمأ الانطلوجي الظمأ للمقدس ، أو الحنين للوجود، ظمأ الكينونة البشرية ، لأن وجود الإنسان يجعله محتاجا دائما إلى ما يثريه ، فهو كائن متعطش على الدوام إلى مايرتوي به، هكذا يبين الرفاعي مفهوم الظمأ الانطلوجي في مقدمة كتابه وعلى غلافه الأخير.
الانطلوجيا أحد مباحث الفلسفة و تعني علم الوجود ، وحيثما كان للإنسان وجود على الأرض لم يفارقه ظمأه للمقدس ، وهنا سيحضر الدين ليلبي ارواء هذا الظمأ كتاب الرفاعي الجديد يملأ فراغا كبيرا ، ويسد حاجة فلسفية وايمانية ملحة ، فالكتابة في البعد الأنطلوجي شحيحة في عالمنا العربي .
يؤشر الرفاعي بعقل مفكر ، وروح متوثبة ، وبصيرة نافذة ، مأزق التفكير الديني ولحظته التاريخية الراهنة ، ويطلق صرخة تحذر من مغبة ترحيل الدين من مجاله
الروحي القيمي الأخلاقي إلى المجال الإيديولوجي عبر زجه في عالم الصراع والتنافس على المغانم.
ومن جهة أخرى ، وبمبضع الجراح الخبير يكشف أسباب ازدراء بعض النخب للدين واحتقارهم للتدين ويعلل موقفهم الفكري من زاويتين الأولى فهمهم الساذج المبتذل لحقيقة الدين والثانية رد فعلهم على أنماط التدين الإيديولوجي الشائع .
هكذا تحدث الرفاعي في كتابه : (الدين والظمأ الانطلوجي) .
* أعمق المعاني هي تلك التي نتذوقها ، لكن تضيق كلماتنا عن استيعابها ، ويتعذر على قوالب ألفاظنا البوح بها.
* من يفشل في اخماد حرائق ذاته يتعذر عليه اخماد حرائق العالم.
* مسار المعنى في حياة الإنسان لاتبتكره إلا الأحلام الكبيرة ، لاتنجزه إلا الأرواح المتوثبة ، لايراكمه إلا الصبر الطويل ، لايشبعه إلا الإيمان.
* كل من يفشل في ابتكار صورته ، وتغريد لحنه الخاص ، ورسم بصمته الفريدة ، يخطف بصره كل ضوء ، فتتشكل شخصيته ظلا لغيره، ويقتبس على الدوام كل صوت يسكر سمعه.
* تتفشى الأفكار الهشة في البيئة الفقيرة عقليا ، وتزدهر الأفكار المركبة في البيئة الغنية عقليا ، أفكار كل بيئة تشبهها .
مئتان وسبعون صفحة مجموع نصوص كتاب الرفاعي الجديد ، تضمنت شروحا ومعالجات لمفهوم الظمأ الأنطلوجي للمقدس من مداخل متعددة في خمسة محاور ينقلنا الرفاعي عبرها إلى أفق بديل يكشف فيه عن الحضور الحقيقي للدين في كيان الكائن البشري وحاجته الوجودية الدفينة إلى مايروي ظمأه الأنطلوجي للمقدس .
مقالات اخرى للكاتب