يرى محللون بأنه رغم كل ماحدث ويحدث في سوريا والعراق، فإنه لم يدفع الإدارة الأميركية إلى إعادة النظر في أولويات استراتيجيتها التي انتقلت من الشرق الاوسط الى المحيط الهادي وفق اعلان الرئيس باراك أوباما قبل أكثر من سنتين . . الأمر الذي عزز و يعزز مواقع إيران التي لم تتأخر في ملء الفراغات التي خلّفها سقوط نظامي (طالبان) وصدام حسين، و الذي اخذ يعزز من إيقاظ طموحات الحركات الجهادية ، كالذي تحقق لـ (داعش) مؤخراً . . و اصاب الدبلوماسية الأميركية بضعف و ارتباك في الرد على التحديات، سواء في العراق أو في سوريا.
و صارت المنطقة كأنما يتنازعها تيار (رفض) وتيار (القاعدة الجديدة) الذي لا يتقيّد بحدود واعتبارات سياسية. و يقدّرون بأنه لم يبقَ أمام واشنطن سوى خيار واحد هو التعامل مع إيران وأذرعها في المنطقة، بعد ان نجحت طهران ـ و لو مؤقتاً ـ في دعم حلفائها في دمشق وبغداد . . و تحاول توظيف ذلك النجاح في المحادثات بشأن الملف النووي التي لم تنتهِ بعد .
في وقت لمست فيه الدوائر الإيرانية و منذ ايام الرئيس السابق احمدي نجاد . . لمست حاجة أميركا الملحة إلى تفاهم يسهّل عليها مغادرة قواتها العراق ومن بعده أفغانستان، اي حاجتها إلى شرق أوسط يتمتع بالحد الأدنى من الاستقرار، ليتيح لها الانتقال الآمن نحو المحيط الهادئ. و لم تكن موافقة واشنطن عام 2010 على التمديد ولاية ثانية للمالكي الاّ نزولاً عند رغبة إيران . .
و يرون ان ماتسبب بظهور داعش في المنطقة، هو الفراغ الذي احدثته انتقالة الثقل الاميركي كما مرّ، و الإحتلال و تبعاته و السياسة الطائفية الإقصائية للحكومة العراقية القائمة، السائرة على نهج المحاصصة الطائفية و العرقية . . و ان ايران و خريطة مواقعها في العالم العربي لن تكون بمنأى عن خطر داعش، حيث سيتحتّم عليها تغيير تحديّها لغالبية شعوب المنطقة في ضغطها عليهم بخيارين لا ثالث لهما: إما حلفاؤها وإما (الدولة الإسلامية لداعش). في وقت هي جزء من الحرب الأهلية والمذهبية المفتوحة في العراق و سوريا . .
و فيما يرى فريق آخر ان السياسة الإيرانية في المنطقة بدأت تتغيّر نحو التسويات، للحؤول دون انهيار البلاد الإيرانية و لكن، السؤال القائم هو هل سينجح ذلك التغيّر بوجود اجنحة متنوعة في الحكم الإيراني ؟؟ فرأي تيار الصقور في إيران أن الولايات المتحدة وحلفاءها في المنطقة يجدون أنفسهم في مأزق كبير حيال ما يجري في العراق، لذلك لن يكون أمامهم سوى تقديم تنازلات إلى طهران في الملف النووي للمساهمة في مواجهة توسّع (داعش)، و لكنهم لاينتبهون الى أن بلادهم ايران نفسها بدأت بالانخراط الميداني الحربي، تماماً كما يفعل الأميركيون، لوقف تقدم (داعش) . .
وستجد طهران نفسها هي الأخرى أمام خيارين لا ثالث لهما: إما التخلي عن المالكي والحفاظ على جزء كبير من نفوذها في بغداد، أو تهديد هذا النفوذ في العراق وسورية أيضاً، لأنها تستنزف مواردها المحدودة و بوجود حصار عليها . . لدعم نظامين .
كما ان ايران لا يمكنها أن تدفع بقوات كبيرة وتتدخل مباشرة في خوض حرب واسعة ستنظر إليها الغالبية السنية في المنطقة بكونها حرباً مذهبية. ولن تتوانى هذه الغالبية عن المواجهة، ليس دفاعاً عن (داعش) بل تحت عنوان مقاومة (الاحتلال) الجديد!!
من جهة اخرى، يرى الكثيرون انه لم يعد التفاهم السياسي الاميركي ـ الإيراني كافياً للعودة بالعراق إلى ما كان، ففي مواجهة هذا الفزع و الإجراءات الكثيفة الإقليمية والدولية لمواجهة (الدولة الإسلامية داعش)، يرى خصوم طهران و المعترضون عليها والمعترضون على السياسة الأميركية، ان ما حدث في المحافظات الشمالية والغربية في العراق هو هبّة ، وظّفتها داعش الإرهابية و مثيلاتها من فلول صدام و اجهزته العسكرية و الامنية السابقة و ترتيباته العشائرية، لمآربهم .
هبّة لا يمكن إخمادها دون اعمال سياسية حثيثة و عاجلة تهدف الى : حوار و تفاهمات أوسع تشمل أهل السنة في المحافظات الغربية و الشمالية، اعمال و حلول تشمل تلبية مطالب الفئات (السنيّة) و تساويهم في الحقوق و تساوي محافظاتهم مع الشيعيّة، و السعي بكل الطرق السياسية لعزل المنظمات و الفئات المتحالفة مع داعش بمحاولة كسبها، ضمن خطة واسعة عسكرية، قانونية مدنية، اعلامية، تربوية و تثقيفية لأشاعة الروح الوطنية و ضد الطائفية و العنصرية و العسكرة . . تهدف الى اشاعة روح المصالحة الوطنية.
فـ (داعش) لا تسيطر لوحدها على الأرض، و انما يسيطر عليها الآن تجمع واسع من المسلحين الذين ينبغي التحاور والتعاون معهم ـ عدا مجرمي اجهزة صدام ـ حيث أن تجاهل هذه القوى او الاستمرار في الصراع معها سيكون مسؤولية و خطأ تاريخيا كبيرا، ان اهملت دعوتهم للحوار و للتعامل معهم على اساس وطني و مصالح وطنية، ايقاف القتال والقبول بالآخر، و التعامل حتى مع من كان خصما بالأمس، و خاصة بعد التطورات الأخيرة التي ادّت الى انسلاخ فئات هامة عن داعش اثر رفضها الاذعان لإعلان البكري خليفة للمسلمين، واثر تنفيذ داعش عقوبة الموت بعدد من مسؤوليهم و ابتعادهم عن التقرّب من داعش . . و ان يشمل ذلك حتى الدول العربية، التي يستفزّها التدخل الإيراني الميداني في العراق و الشام، حيث مالم تتم هذه التفاهمات سيكون من الصعب فعلاً القضاء عسكرياً على (داعش) . .
ليس لأن (داعش) تملك جيشاً كبيراً وتمتلك من العتاد ومصادر التمويل ما يمكّنها من المقاومة فحسب، بل الأخطر لأنها تتحرك في بيئات حاضنة ورافضة للأوضاع القائمة في كل من بغداد ودمشق ، بيئات لن تتوانى عن الدفاع والمقاومة، و تهدد بنشوء دواعش اخرى ان هُزمت (داعش الحالية) و بقيت المشاكل دون حل. ولن تتخلى هي ومن يتعاطف معها في الخارج عن سلاح (الطائفة) في مواجهة أسلحة إيران وأذرعها الطائفية في المنطقة . .
من جانب آخر، يرى خبراء سياسيون و عسكريون، ان ما يزيد الوضع تعقيداً هو أن التسوية السياسية لا يمكن أن ترى النور قبل دحر هذا التنظيم الممسك فعلياً بمقاليد السلطة والسيطرة. وما لم تتوافر وسائل دعم و ضمانات حقيقية من الحكومة الإتحادية لأهل السنة، لأنهم قد لن يجازفوا بسهولة بتكرار تجربة "الصحوات " لصالح الحكومة، بعد التعامل الفج المؤسف للمالكي معهم، رغم تضحياتهم و تقديمهم الكثير في محاربة القاعدة الارهابية التي تكللت بانتصارهم عليها و هزيمتها . .
و يؤكدون على ان شعبنا بوحدة قواه و مكوناته ان احسن تنظيمه، بوجود حكومة تجسّد الإرادة الوطنية على اساس احقاق الحقوق بالتساوي لكل المكونات العراقية لتترتب على اساسها الواجبات . . قادر على انزال الهزيمة بداعش و مثيلاتها، و ان التلكؤ و الانتظار سيف ذو حدين، فكلما تأخرت مواجهة (داعش) بعد تفاهمات سياسية تشرك جميع اللاعبين والمتورطين في العراق وسورية، وحتى لبنان . . ستشمل الأخطار والتهديدات هذه الأطراف كافة. ولعل الضغوط التي يمارسها أهل كردستان تستعجل مثل هذه التفاهمات رغم ان الإستقلال الفعلي ليس بالأمر الممكن حالياً، و يتساءلون هل سيكون فشل الفدرالية كإحتمال، مدخلاً إلى طرح الكونفدرالية كحل وحيد؟
و فيما يؤكد الجميع على عدم اضاعة مزيد من الوقت، لأنه لا يخدم أحداً من المتورطين الذين دفعتهم (داعش) إلى لعبة دموية لا يعرف أحد منهم من سيكون ضحيتها الكبرى، وسط تساؤلات حول هل يعيد أوباما النظر في استراتيجيته ويعود إلى التلويح بسياسة القوة للحفاظ على ما بقي من صورة أميركا كقوة قائدة، ولإعادة التوازن في الشرق الأوسط؟ وهل سيستطيع روحاني اعتراض المعترضين ويقدم التنازلات المطلوبة في بغداد ثم في دمشق . . وبيروت؟ حيث لا مجال الى العودة الى ما قبل (داعش) بعد ان تبلورت امور الصراع الطائفي بكيانات امارات (*) قائمة ان صحّ التعبير. اليس التوجه الى بناء الحكم على اساس مدني لاطائفي هو الأفضل ؟؟
(انتهى)
مقالات اخرى للكاتب