وقفت ذات مرة على حدود دولة الفاتيكان مع ايطاليا، في ساحة سان بيدرو، ثم مشيت الى جانب الجدار الذي يسور دولة الفاتيكان، سيرا على قدمي، حتى عدت الى نفس النقطة، من الجهة الاخرى، فلم تأخذ مني الرحلة اكثر من 45 دقيقة.
هذه هي كل مساحة دولة الفاتيكان، التي لا تكفي ارضها بالتأكيد لسكن السيد رئيس الوزراء نوري المالكي، وحماياته، ومستشاريه، وحمايات مستشاريه، ولعرباتهم المصفحة ومهابط طائراتهم العمودية، وبقية معداتهم ودوائرهم الامنية...
لكن هذه الدولة الصغيرة كانت على علم بتحشدات مسلحي داعش ونيتها الهجوم على الموصل، قبل شهور، فوجهت الدعوة للسيد مسعود البارزاني، الذي زارها في اواخر ايار الماضي (قبل هجوم المسلحين) للقاء البابا، من اجل التنسيق مع رئيس الاقليم، لكي يوفر الامن للعوائل المسيحية النازحة من الموصل، اذا ما حلت الكارثة.
بينما العراق، الذي تدور هذه التحشيدات الواسعة النطاق على ارضه، والتي استمرت لفترة تسعة اشهر من التحضير، وتكديس العتاد، ونقل المحاربين الاجانب، قد بدا متفاجئا في ليلة السادس من حزيران الماضي عندما هجمت البيكبات المغبرة على ثاني اكبر مدينة فيه، تصخب بجعجة الهاونات والله اكبر، حتى بلغت شدة المفاجأة والصدمة ان ينسحب منها اكثر من 80 الف عنصر حكومي مسلح في ضرف ثلاث ساعات، وترك المدينة للوافدين الجدد.
ويفضل الاعلام الرسمي العراقي ان يحتفظ السيد رئيس الوزراء، القائد العام للقوات المسلحة، والذي يتولى مناصب وزير الدفاع، وزير الداخلية، وزير الامن الوطني، يفضله هذا الاعلام ان يحتفظ بصورة الرئيس المتفاجئ بالهجوم، والذي اخذ على حين غرة.
فهل يعقل ان تعلم اصغر دولة في العالم، بامر الحشود المسلحة، وتحركات الالاف من العناصر القتالية، مع اسلحتها ومعداتها، ولا يعلم العراق، الذي تدور على ارضه هذه الاحداث؟! ويظهر رئيس وزرائها بمظهر "المتفاجئ" المصدوم بعد تنفيذ الهجوم واحتلال المدينة!؟
القيادات الكردستانية اعلنت مرارا بانها قد نقلت الى السيد المالكي التحذيرات بتحركات المجاميع المسلحة، والتحضيرات التي تجريها في منطقة الحضر، جنوب شرق المدينة، منذ اشهر، ولم يرد المالكي على هذا الزعم.
وظهر السيد احمد الجلبي في لقاء متلفز على واحدة من اكثر الفضائيات شيوعا في العالم العربي، واعلن بان السيد البارزاني قد نقل لرئيس الوزراء هذه التحذيرات عن طريقه قبل تسعة اشهر من الهجوم، ولم يرد السيد المالكي.
ثم اذا تركنا هذا، فلا يمكن ان تخفي تحركات داعش على ايران، خصوصا وهي التي ترى نفسها جزء من الصراع في سوريا والعراق، وليس من المعقول ان لا تنقل مشاهداتها للقيادة العراقية.
ولو تركنا ايران، فليس من المعقول ان تخفى تحركات داعش على الامريكان، بكل التكنولوجيا التي تحت تصرفها، وجهازها الاستخباري الاخطبوطي، والاكثر غرابة هو ان لا تنقل السفارة الامريكية في بغداد تحذيراتها الى قادة الجيش العراقي، وعلى رأسهم السيد المالكي، والا فما هي مهام السفارة الامريكية، التي تعتبر اكبر سفارة في العالم لبلد على ارض بلد ثانية؟
ولو اسثنينا الامريكان، فان الفاتيكان، التي ترى نفسها معنية بشأن المسيحيين في الموصل، هل من المعقول ان تتفق مع السيد البارزاني على حماية العوائل المسيحية التي سوف تهرب من مدينتها، ولا تتصل اولا بقيادة الجيش العراقي، وبالسيد المالكي تحديدا!؟
اذا سايرنا الاعلام الرسمي العراقي، بان السيد المالكي قد تفاجأ بهجوم داعش، فان ذلك يعني ان في الامر سر عجيب.. اما ان يكون السيد المالكي عارفا بتحضيرات داعش، ولكنه متواطئ معها، ربما من اجل تغيير موازين القوى في سوريا، او ان يكون على درجة من الفشل بحيث لا يصلح ان يكون فراشا في مبنى رئاسة الوزراء، اذ ليس من المعقول ان تعلم الفاتيكان، التي لا تمتلك جيش، ولا جهاز استخبارات، بتحركات داعش قرب الموصل، قبل شهور من الهجوم، ولا يتحسسها السيد المالكي.
مقالات اخرى للكاتب