من المؤكد أن المسلمين حتى بعد أربعة عشر قرنا من ولادة الإسلام لا زالوا لا يعرفون كيف يمارسون الإسلام الصحيح في حياتهم اليومية، ولا زال مشروع الإسلام أمرا عصيا على فهمهم، ولا زالوا لا يفقهون روعة المعادلة بين المنهج والتطبيق، ولاسيما وان هناك قوى ومؤثرات حاولت على مدى السنين مصادرة الوعي وتوجيهه حسبما ترى لتحول دون تحقق الانسجام، وأكيد أن ذلك العمل أحدث جمودا فكريا أحدث بدوره صراعا عقائديا ونزاعا دمويا ازدادت تراكماته تاريخيا لأنها وجدت الحواضن في عقول الأمة.
وخلال تلك الحقب الخطيرة كان تحول الصراع الطائفي إلى نزاع دموي هو المنهج الأكثر استساغة عند الإسلامويين المتطرفين الجامدين، فقانون الظالم والمظلوم كان ولا يزال يتحكم بمناهج الكون عندهم؛ يوجههم ويقودهم ويتحكم بقراراتهم مما تسبب بنزيف دموي دائم يزداد عنفا وتدفقا تبعا للمؤثرات الخارجية والقوى الشيطانية التي تتحكم به.
ومنذ 2003 ولغاية هذا اليوم، وعلى مرور عشر سنين عجاف منذ التغيير في العراق، ولاسيما بعد أن دخلت فلول العرب الأفغان هاربة من كويتا وهلمند أصبح السلاح العراقي الذي كان يدافع عن العراق يفجر الدم العراقي، وأمسى الإنسان العراقي يُذبح طائفيا بيد العراقي، وصار المعول العراقي يهدم البيت العراقي، كل ذلك بتحفيز ودفع من شعارات فوضوية تخريبية ما انزل الله بها من سلطان؛ بعضها ديني طائفي والآخر سياسي مدفوع الثمن، ولكنها جميعها وافدة من خلف الحدود لا يعرفها العراقيون الأصلاء. وتبعا لهذا الانحراف المنهجي أصبحت السيارات المفخخة التي لا تمايز بين طيب وخبيث ولا بين عاقل ومجنون ولا بين شريف وعاهر تحصد أرواح العراقيين الأبرياء تحت مسميات كثيرة ليس من بينها مسمى يرضى به الله أو يقره الإسلام ويعترف بصحته.
ومن حقنا أن نسأل عن مصدر هذا الصراع المحصور بين طائفتين مسلمتين بعد أن وصل إلى مدى لا سابق له في التاريخ، هل هو صراع من أجل الإسلام أم على الإسلام؟ هل هو صراع على الهوية الإسلامية أم صراع هويات إسلامية، هل هو صراع لا علاقة له بالإسلام أم نابع من صميمه؟ فالصورة أكثر من ضبابية وملامحها طلاسمية لا تكاد تُرى.
ولماذا تستهدف الهجمات التدميرية التخريبية حصرا مدنا وأبناء طائفة بعينها من الطوائف العراقية المسلمة دون غيرها؟ هل يعني ذلك أن هناك نوايا حقيقية للقضاء كليا على هذه الطائفة بإحياء الشعار الذي رفعه الإرهابي المقبور الزرقاوي عليه لعنة الله؟ وهل ذلك ممكن نظريا أو عمليا؟ هل نجحت تجربة مماثلة من قبل في الأقل خلال القرون الخمس الماضية في العالم كله، وأين؟
وإذا ركبنا رؤوسنا خبالا وفرضنا جدلا أن ذلك ممكن التحقيق، وان الإبادة تمت، وتمكنت إحدى الفئتين من القضاء على أكثر من ستين بالمائة من العراقيين قضاء مبرما، فماذا سيحدث؟ وكيف سيكون وجه العراق، ما قوته وما إمكانيته وما قدرته وما حجمه؟ وما يضمن تحوله إلى لقمة تلوكها قوات غازية تأتي من الشمال أو الشرق أو الجنوب أو حتى من قطر بل حتى مجرد لصوص صغار؟ ماذا سيحدث إذا ما بقيت النار مستعرة بين الفئتين بهذا الشكل الفوضوي، يغذيها زعيق الصبيان في سوح الممانعة من اجل هدف مجهول؟
وإذا كانت كل المؤشرات والمعطيات قد أثبتت أن أي من الفئتين المتصارعتين لا تبدوا منسجمة من الداخل، والصدع الموجود بين مكوناتها أكبر من الصدع بينها وبين أختها العدوة اللدود، ألا يعني ذلك أن الصراع ممكن أن يتحول في مرحلة لاحقة إلى صراع داخلي حتى قبل أن يتم الاحتفال بالنصر؟ فماذا نتوقع أن يحدث حينها؟ ماذا نتوقع أن يحدث إذا انتقلت الحرب إلى البيت الواحد ودخلت غرفه وأسرة نومه ومكان الجلوس فيه ومضيفه ومخدعه؟ ألا يعني ذلك أن نزيف الدم وعجلة الخراب سوف تستمر بشكل أكثر همجية إلى ما شاء الله، وأنها ستأكل أبناءها وأخوتها وأهلها ولا تبقى على الأرض ديارا؟
وفي هذه المعادلة غير العادلة من حقنا أن نسأل: أين ذهب العقلاء الأصلاء شيوخ العشائر الكرام الذين كان المحتاج يقصدهم ليطفئوا نار فتنة قد تنشب بين عراقيين بسيطين إذا اختلفا على شأن من شؤون الدنيا؟ لماذا تحولوا إلى دعاة على أبواب الفتنة والخراب؟ لماذا نسوا مراكزهم الأصلية ومبادئهم الوطنية وشيمتهم العربية وتربيتهم الإسلامية وقيمهم الروحية وتحولوا إلى ألعوبة بيد الجهلاء والعملاء والصبيان يحركونهم كما تحرك أحجار الشطرنج دون إرادتهم؟
أين ذهب علماء الدين الفضلاء الذين كانت كلماتهم تسحر السامعين وتدخل الطمأنينة إلى قلوب العالمين؟ لماذا تحولوا بين ليلة وضحاها إلى دعاة على أبواب جهنم يأمرون بالباطل وينهون عن المعروف والحق؟
وما مصير الأمة إذا فسد علماؤها وانخدع شيوخها وسكت عقلاؤها وحركها سفلتها وتحكم بمصائرها الغرباء من أهل البلدان الأخرى المشهورين بعمالتهم السادرين بغيهم من خدم الماسونية والصهيونية والإمبريالية العالمية؟
وإذا سكت هؤلاء وهؤلاء أليس من المفروض بالمواطن أن يدافع عن وطنيته وأن يعلن استنكاره؟ فإلى متى نبقى ساكتين عن حقنا في حياة سوية آمنة، ومتى نخلع الأعنة ونتبرأ من القادة الغربان الذين يريدون قيادة الأمة إلى دار الخراب؟ ومتى ندير بنادقنا من صدورنا إلى صدور أعدائنا؟ متى ... متى .. وهل في عمر العراق بقية، أو قدرة على تحمل رد فعل تجربة قاسية من تلك التجارب التي أنهكته؟ أليس من المفروض بنا كعراقيين أن نعترض ونمانع ونصرخ بوجه من يريد جرنا إلى حمامات الدم: كفى فقد طغى الخطب حتى غاصت الركب.! كفاكم ألاعيب بمصيرنا ومستقبل أولادنا وسيادة وطننا المستباح؟
مقالات اخرى للكاتب