كثيراً ما يدهشني ويصدمني ساسة العراق بسذاجتهم في فهم آلية الدولة. ربما نجد أن العبادي المهندس هو الشخص الوحيد الذي يفهم كيف تشتغل الماكينة وما يلزمها من وقود وزيوت وقوة. راحوا يهمشون خطواته الإصلاحية بأنها ليست إصلاحاً وإنما تقشف. هذا ما قاله علاوي. وكل ذلك مع إدراكهم التام أن الدولة مفلسة. كيف تصلح سيارتك إذا لم يكن في جيبك ما يكفي من الفلوس لتدفع فاتورة الكراج؟ أي صبي في الشارع يعرف ذلك. أم يا ترى ينتظرون منه إجراء التصليح بالسلفة، بالاقتراض من البنوك الدولية ومن ثم الوقوع في مطب اليونان التي أصبحت الآن بسبب ديونها تحت وصاية ألمانيا عملياً. الظاهر أن السيد علاوي يقصد بالإصلاح إصلاحاً ورقياً «الإصلاح السياسي» لنحصل على ما يعرف في بريطانيا بلعبة الكراسي الموسيقية.
تطالب شتى الأطراف في العراق الآن، النازحون والفلاحون والخريجون، بتخصيصات مليونية لسد رمقهم. وماذا عن تحرير الموصل والأنبار؟ كم مليون دولار ستتطلب هذه العملية العسكرية يومياً؟ وماذا عن إصلاح وتطوير البنية التحتية المنهارة وتجهيز الكهرباء الذي ثار الشعب من أجله؟ من أين ستحصل الحكومة على المال اللازم لكل ذلك وما يخرج عن إطار ذلك؟
هناك الحاجة الماسة لإعادة بناء الجيش العراقي وأجهزة الأمن والشرطة، بحيث لا تحتاج الدولة إلى حشود شعبية وعشائر وعساكر من إيران للاضطلاع بمهمات الأمن وتحرير الأرض ودعم القضاء والنظام. لفت نظري توجيهات رئيس الحكومة بأن التوفيرات التي ستتمخض من عمليات الترشيق ستحول إلى وزارة الدفاع ووزارة الداخلية. رأي حكيم ومصيب. فلا بد أن تكون بيد السلطة الحاكمة الأدوات التي تحكم بها وتنفذ قراراتها وتعيد للقضاء حرمته واحترامه. وبناء جيش وشرطة وأجهزة أمن يتطلب المليارات.
يطالب الجميع بالقضاء على الفساد. لن يتحقق ذلك دون جهاز قضائي مستقل ورصين. ولن يشعر القاضي بالثقة في نفسه دون شرطي في الباب وجندي وراءه. المظهر الرئيسي الواضح للفساد هو التخمة البادية على رجالات الدولة. كيف يحترم الموظف العراقي نفسه وينأى عن الرشوة والسرقة عندما يلاحظ أن لرئيس الحكومة سبعين سيارة فارهة، لكل منها سائقها وحرسها؟ وما الذي يشعر به المواطن عندما يقرأ عن كل نواب الرؤساء ومئات المستشارين الذين ليس لهم من أمرهم غير أن يعددوا أياماً ويقبضوا راتباً، وراتباً تعيش على كل منه مائة عائلة عراقية؟ هذا الترشيق والتقشف وسيلة من وسائل حسر الفساد وتحويله إلى عيب يخجل منه المواطن، لا أن يتباهى به كما كان الحال طوال السنوات العشر الماضية.
أنا واثق بأن في جعبة العبادي حزمة أو حزماً من الإصلاحات العملية، وليس الورقية أو الفضائية، سيحل أجلها في حينه مما يعيدني ثانية إلى موضوع الصبر. يقول المثل اللاتيني: روما لم تُبن في يوم واحد. الطريق طويل ومحفوف بالأخطار والعصابات. لا بد من توسيع القطاع الخاص ليستوعب العاطلين والساسة العاطلين، ممن سيلفظهم التقشف.
مقالات اخرى للكاتب