أطفالاً كنا نخاف من الليل، ليل اللصوص والقتلة، ليل الأشباح وقصص الجنّ وحكايا الأمهات والجدات عن مخلوقات العتمة، الليل الذي كلّ سوادةٍ فيه تقع على ظلامه الأسود فتزيده اسوداداً وتزيدنا خوفاً.
أطفالاً لم يكن يأتينا من الليل إلا ما يحبب إلينا قطع هذا الليل بالنوم، اختصاره بالغياب عن عيشه لنكون بين غمضة عين وانتباهتها في الصباح، تحت شمس رحيمة تبدد الظلمة ومخلوقاتها.
كنا نخاف من الليل يا ليل فأصبحنا نخاف النهار.
أصبح الصبحُ أكثرَ غموضاً ووحشة بعد أن كبرنا وعرفنا أن النهار ـ لا الليل ـ وقت القتلة واللصوص والأشباح، وقت حكايا مرعبة بلا أمهات ولا جدّات.
ألهذا يسهر الساهرون؟ يسهرون ليؤجلوا ظهور الشمس الكاشفة عن بحر الوحشية الذي نسبح فيه، يسهرون ضدّ الشمس، ضدّ نوم الأقوياء الذي ينشطهم ويجعلهم يستيقظون بكامل عافيتهم ممتلئين شهوة للقتل والنهب والخداع والنميمة، يسهر الضعفاء وسهرهم علامة تحدٍّ، مقاومة يائسة لسلطان الضوء الذي تحالف مع سلطان الشرور.
خُدعنا مديداً بقصة الشمس العادلة تمنح ضوءها للبرّ والفاجر على السواء، وكرهنا الليل الذي يتستر على وحوش وطناطل ومجرمين، ولم نكن نعرف أن هؤلاء الذين في حكايات الجدّة أرحم ممن يفتحون أعينهم قبل صياح الديك وفي نفوسهم تتورّم شهوات كانت نائمة تحت عباءة سوداء لأمٍ رؤوم هي العتمة الساترة لخطايا البشر.
ساوينا بين الظلام والظلم قبل أن نكبر ونعرف ان هذه خدعة أهل النهار للضحك علينا ـ نحن أهل الليل المسالمين ـ.
انظروا إلى حكايات النهار: قتل، مفخخات، عبوات وكواتم صوت وغشّ وخطابات كذوبة لكاذبين وسرقات وفظاظات وقسوة قلوب وانمساخ ضمائر ومراكمة أموال فوق عذابات بشر، وكلّ ذلك يتمّ بعلم الشمس ودراية الضوء ومعرفة النهار، لقد هرب اللصّ والقاتل والجنيّ الشرير من حكاية الجدّة إلى الشارع ولن يوقفه أحد، الطنطل والسعلوة ببدلة وربطة عنق هجم على النهار وسرقه ولم يترك لنا سوى السهر سبيلاً لمقاومة هذا الخراب.
نسهر في حكايا الجدّات لنلاقي أحباءنا القدامى من لصوص طيبين لم يكونوا مؤذين، لنقبّل الغول من فمه قبل أن تأتي غيلان النهار بحساباتها المصرفية، بحماياتها وسياراتها، وتحتلّ العالم.
نسهر في حكايا جداتنا حتى صباحكم أيها القتلة، حين تستيقظون ممتلئين جرماً وتنسجون حكاياتكم الأليمة البشعة التي لا جدة لها ولا أمّ.
نسهرُ لأنكم نائمون.
مقالات اخرى للكاتب