مقالي الاسبوع الماضي خصصته لتركيا واصدقاؤها في العراق، وكان للجبهة التركمانية حضور فيه، لكني لم اتمكن في المقال من تبيان موقفي بالكامل منها بسبب تاريخ الجبهة التركمانية الذي يمتد لسنوات طويلة، لذا وعدت قرائي ان اتحدث بالتفصيل في مقالاتي القادمة حول الجبهة التركمانية، ووجدت ان هذا الوقت انسب الاوقات لذلك.
انا من اهالي كركوك, ولدت وترعرعت في مدينة متعددة المكونات. في عملي السياسي طالبا في مدرسة كبيرة هي مدرسة جلال الطالباني، ولطالما دافعت عن الحقوق السياسية والثقافية للتركمان وتعرضت على أثر موقفي هذا في بعض الاحيان الى مشاكل عديدة.
تأسست الجبهة التركمانية عام 1995 في مدينة اربيل كتشكيل سياسي للتركمان يرتبط ماليا واداريا بجهاز المخابرات التركي المعروف اختصارا ب(م, ي, ت)، واستمرت ادارتها بيد (م, ي, ت) الى ما قبل سنوات حيث جرى نقل ادارتها الى وزارة الخارجية التركية.
نجحت هذه الجبهة في احتواء غالبية الاحزاب والجماعات والشخصيات القومية التركمانية المتشددة، واستطاعت ان تسجل حضورا واضحا في تمثيل التركمان الذين كان لهم حضور قوي في داخل الاحزاب الشيعية الكبيرة في فترة النضال ضد حكم البعث, وعملت الجبهة التركمانية على طول الخط كمكتب تنفيذي للسياسة التركية في العراق، وكان المتضرر الاول من جراء ذلك هما التركمان والشارع التركماني اللذان دفعا ثمنا باهضا بالرغم من ان التركمان عانا ما عاناه الكورد سواء قبل انتفاضة عام 1991 او بعدها من ترحيل وتعريب, وظلم وطرد وملاحقة واعتقال وتعذيب واعدام الخ.
نقف هنا عند موقف الجبهة التركمانية في مؤتمر المعارضة العراقية في لندن عام 2002 حيث طلب زلماي خليل زاد الذي حضر كممثل للرئيس جورج بوش الابن طالب منهم بالتفاهم مع تركيا وايضاح موقفهم من العراق بعد حكم البعث, وشكل مشاركتهم في اسقاط النظام، وبعد مناقشات دامت ستة ساعات مع ال(م,ي,ت) التركي وضعوا شرطا على مشاركتهم, وهو ان لا يكون العراق الجديد عراقا فدراليا، لان الكرد سيكونوا هم المستفيدين منه، وكان موقفهم من المشاركة في الحرب لاسقاط النظام هو نفس الموقف التركي، لكن من حسن الحظ ان مؤتمر لندن اقر الفدرالية للعراق بعد اسقاط النظام البعثي.
مع اول تجربة حكم في العراق بعد سقوط البعث اختيرت سيدة تركمانية من خارج الجبهة التركمانية لعضوية مجلس الحكم وهي السيدة "سنكول جابوك" التي لم تكن فاعلة سابقا على الساحة السياسية، وبهذه الاشارة قيل للجبهة التركمانية مامعناه "سياستكم لا تسنسجم مع العراق الجديد"، الا ان الجبهة التركمانية لم تفهم هذه الاشارة, وانتقلت الى جبهة المعارضة وسبحت ضد التيار حتى في مدينة مثل كركوك التي يعتبرونها هم انفسهم عاصمة "تركمان ايلي- ..اي موطن التركمان"!!, ثم دخلت الجبهة في تحالفات مع العرب الشوفينيين ووقفوا ضد الكورد، وعلى الرغم من ذلك فشلت الجبهة ولم تتمكن من رفع ابسط حيف اوظلم عن التركمان وخصوصا اعادة الاراضي الزراعية العائدة لمواطنين تركمان, والتي لا تزال مشكلة قائمة مع العرب الذين منحهم البعث تلك الاراضي في حينه.
كان هذا التحالف (الجبهة, الشوفينيون العرب) بطلب من تركيا، ونجح العرب الشوفينيون في الاستفادة منه واستخدام التركمان لمعاداة الكورد, وتقريب انفسهم من تركيا، دون ان يحصل التركمان على اية فائدة منه.
نجح العرب في تجنيد الضباط السابقين من التركمان السنة وبالاخص في تلعفر في صفوف البعث, ومن ثم في القاعدة وبعدها في تنظيم داعش، ولذا فان هناك قسم مهم من قادة داعش الخطرين في الموصل من التركمان السنة التلعفريين(من مدينة تلعفر) ، ووقع في تلعفر اول قتال تركماني تركماني حيث ارسلت السيارات المفخخة لتفجيرها في مناطق التركمان الشيعة، بل وان هؤلاء القادة التركمان في داعش كانوا وراء الهجوم الكيمياوي على ناحية تازة التركمانية العام الماضي.
ان قادة التركمان والشارع التركماني يدركون هذه الحقائق بوضوح, وان داعش لم يتمكن من اقتحام خطوط الدفاع عن كركوك, وان البيشمركة هم من يحمون التركمان في كركوك عاصمة "توركمان ايلي - موطنهم" حسبما يسمونها!!، لكن قادة الجبهة التركمانية لم يفيقوا بعد، فهم لا زالوا يقفون ضد اي مشروع فيه فائدة لكركوك، ابتداءا من انتخابات مجلس المحافظة ومرورا بتسليم كركوك صلاحيات
ادارية في اطار اللامركزية للمحافظات, وليس انتهاءا بتوزيع الاراضي السكنية على الفقراء وذوي الدخل المحدود.
بسبب استمرار هذه السياسة القاتلة، استمرت عملية تهميش الجبهة التركمانية في العراق، وتسلم العديد من التركمان في الحكومات العراقية السابقة مناصب وزارية وكلهم من خارج الجبهة، وبعد التغييرات الاصلاحية لرئيس الوزراء حيدر العبادي رشح تركمانيا الى منصب وزاري من خارج الجبهة، ورغم كل هذه الاخطاء وبعد كل هذا الفشل لم تعيد الجبهة النظر في سياستها خصوصا ان معركة تحرير الموصل قائمة الان، وهي اليوم لا تزال مصرة على سياسة الحاق الضرر بالتركمان، ويطلقون يوميا التصريحات التي تحاول تبرير وجود القوات التركية في بعشيقة خلافا لموقف البرلمان العراقي, والحكومة العراقية, ويعيدوا ويكرروا اسطوانة تركيا حول مطاردة عناصر حزب العمال الكردستاني، في الوقت الذي تقف فيه قوات هذا الحزب ضد تنظيم داعش في هذه المرحلة الخطرة التي تمر بها مناطق عراقية كثيرة, وتشارك ايضا في حماية سكانها بمن فيهم التركمان، وبحسب معلومات استخبارية مسربة فان الجبهة تعمل الان في مدينة انطاكيا التركية لعقد سلسلة اجتماعات مع قادة البعث من اجل وضع خارطة طريق لمرحلة ما بعد داعش؟!.
التركمان في العراق ومنذ عام 2003 يدفعون ضريبة اخطاء سياسة الجبهة التركمانية التي هي انعكاس لسياسة تركيا في العراق.
ولشارع التركماني في كركوك يدرك الان حقيقة انه لولا قوات البيشمركة لكانت تركيا قد ادخلت داعش الى كركوك، وان اي من قيادات الجبهة التركمانية لا يجرؤ على المبيت في داره في كركوك ليلة واحدة بدون حماية قوات البيشمركة للمدينة. من هذا المنطلق اعتقد ان الجبهة التركمانية تقامر مرة اخرى بمستقبل التركمان، لانه بعد داعش سوف تتبلور المواقف, وسيكون قبر هذه الجماعة الارهابية محكا حقيقيا لكل القضايا السياسية في العراق.
مقالات اخرى للكاتب