لا يوجد إنسان شريف، عراقي أو عربي أو عجمي، لا يتحرق شوقا إلى نهاية حقيقية مشرفة ونقية ونزيهة وعادلة وعاقلة لنفق الخراب العراقي المظلم الطويل.
ولكن حين لا تخرج الدعوة إلى التسوية الحقيقية النهائية النزيهة الصادقة من أعماق الشوارع والأزقة والبيوت التي حبس فيها أقطاب المحاصصة ملايين المواطنين العراقيين المُسضعَفين المستغفَلين، أصحابِ المصلحة الحقيقيين فيها، بل تأتي من صُناع الخراب أنفِسهم، ومن حُماة التطرف والتخلف والفساد والحقد الطائفي العنصري، ذواتِهم، فهي لا تستحق من أي عراقي سوى أُذنٍ من طين وأخرى من عجين.
إنها عملية خداع جديد لإدارة ترامب هدفُها المفضوح هو التظاهر بالوطنية، وبعدم الإصرار على تهميش أحد من العراقيين، وبالاستقلال عن إيران.
وأكثر ما يتبادر إلى الذهن من الدوافع الخفية لإخراج المسرحية الجديدة هو أن إيران، في وضعها الحرج الجديد في مواجهة احتمالات مزعجة قادمة من واشنطن، على أيدي صقور رئيسهم المتحزِّم المتحضر لقمعها وردعها، لا تريد أن ينفصل إقليم نينوى وإقليم الأنبار، في هذه المرحلة بالذات، وأن يتحالفا مع دولة مسعود البرزاني، وتحت خيمة أردوغان التي لا ريب فيها. فهي في غنى عن أي تصعيد من أي نوع، وعن خوض أية حرب، باردة أو ساخنة، مع تركيا المصرة على المواجهة في نينوى العراقية والرقة السورية، مباشرة أو بواسطة وكلائها. أو ترحيل المواجهة مع جيوش أردوغان إلى زمن قادم يتبين لها فيه الخيط الأبيض من الخيط الأسود، أو حين تتحقق رؤية الهلال. والذي تجده، هذه الأيام، في العراق وسوريا واليمن من كوابيس يكفيها ويزيد.
وعلى حقيقة أن (التسوية التاريخية) ولدت ميتة أدلة عديدة، منها أن مصدرها التحالف (الوطني) ذاتُه الذي لا يملك غيرُه مليشياتٍ مسلحةً تتعالى حتى على جيش الدولة وشرطتها ووزاراتها وبرلمانها، ومعترفا بها من الحكومة، والذي لم يضع ولو كلمة واحدة عابرة في (تسويته العابرة للطوائف) عن استعداد أيٍ من أطرافه لحل مليشياته، وتسليم سلاحها للدولة، في عراق ما بعد داعش.
كما أن أصحاب تلك التسوية عادوا إلى الحديث الممل عن اجتثاث البعث، وكأنهم لم يؤمنوا بعد بأن التسوية الحقيقية النزيهة العادلة ينبغي ألا تستثني سوى حمَلة السلاح الذين لطخوا أيديهم بدماء العراقيين، وهم كثيرون، منهم داعش والقاعدة، على الجانب السني، وبدر والعصائب وحزب الله العراقي وكتائب العباس وغيرها على الجانب الشيعي.
ومن البعثيين شرفاء وطنيون خسرت الدولة خبراتهم ومواهبهم وقدراتهم، ونكلت بهم داعش وأنصارُها، وأشباهها، سنة وشيعة، سواء بسواء. والقائل باجتثاث فريق عراقي بحجم حزب البعث يعني أنه لا يريد تسوية، بل يريد ترقيع قماش المحاصصة الممزق، وتغطية عورتها بثوب من حرير.
والتسوية المطلوبة لإخراج العراق والمنطقة من جهنم الحمرا لن تقوم إلا بحل (ائتلاف) الأحزاب الديني الطائفي، وتعيين حكومة إنقاذ انتقالية مستقلة عن الأحزاب والمحاور والتكتلات السياسية،
والغاء الدستور الذي أسس للطائفية والعنصرية، وفتَح خزائن الدولة للمختلسين والفاسدين والمحتالين والمزورين، وكتابة دستور جديد ليس فيه حديث عن (مكونات)، بل عن هوية وطنية واحدة يتساوى فيها الجميع أمام القانون. ففي ظل الدستور الحالي لا يمكن أن يكون هناك عدل ولا مساواة ولا حسابٌ عادل لمن باع نفسه ووطنه لأجنبي، أيا كان، ومن أية ملةٍ كان.
وأول مهام الحكومة الانتقالية التي يحلم بها الشعب العراقي أن تَنسف المفوضية العليا للانتخابات، وتدعو الخبراء القانونيين العراقيين، وهم بالمئات، وربما بالأوف، لتشكيل آلية جديدة مُحكمة تحمي العملية الانتخابية من ألاعيب تجار السلاح والمال، وسماسرة المقاعد والمناصب والرواتب والمكاسب، وإجراء انتخابات جديدة نزيهة بمراقبة دولية شاملة تضمن حرية الناخب العراقي كاملة، دون نقص ولا ابتزاز.
ولا غنى عن نفض القضاء العراقي وتنقيته من الجراثيم التي علقت بروحه وعقله وضميره الذي كان بخير وصحة وعافية، قبل خراب البيوت.
أما حين نجد أن التسوية (التاريخية) المقترحة تشترط لقبول انضمام أي طرف إليها أن يعترف بالعملية السياسية و(مُخرَجاتها) فذلك لا يعني سوى إصرار سدَنتها على بقائهم كلٌ على مملكته العامرة، وعلى جواز العمالة للأجنبي، وشرعية مصادرة حقوق المواطنين وحرياتهم وكراماتهم بقوة السلاح.
ثم بدون منع الدولة، كل الدولة، بوزاراتها وجيوشها وأموالها، من الإنغماس في الطقوس والمسيرات والاحتفالات الدينية التي تخص طائفة واحدة من العراقيين، لن تقوم قائمة لأية تسوية، مهما جَمَّلها وزينها المُجمِلون المُزيِنون.
وقيل إن بعثة الامم المتحدة في العراق (يونامي) تعهدت بتكوين "جهة سياسية سُنية موحدة" للتوقيع على الوثيقة، وبالحصول على موافقة دولٍ إقليمية سنية عليها.
وهذا لا يعني سوى إعادة إنتاج البيت السني (الحاكم)، بتأهيل رافع العيساوي وأثيل النجيفي وغيرهما، مع إضافة ركاب جدد إلى ساكنيه، للمشاركة في توزيع جديد للوزارات والمؤسسات والواردات والصادرات، وكفى المؤمنين شر القتال.
ولو قامت أية جهة محايدة ومستقلة ونزيهة بإجراء استفتاء حر ونزيه ومستقل في الشارع السني لتبين لها أن هذه (اللـَّمة) المُرقَّعة ليست هي الرافعة التي ستُخرج الزير من البير، وأن الرهان على أفرادها ليس أكثر من رهان على خيول مُتعَبة تقاتل بسيوف غيرها، وبأمواله السائبة.
وهنا لابد من التأكيد على أن أية مصالحة تخرج من أقبية الحكومة الحالية ومن أزقتها المظلمة، لن تكون جادة وصادقة وقابلة للحياة إلا حين يعلن أصحاب العملية السياسية، كافة، قادة التحالف (الوطني)، وتجمع أسامة النجيفي، ودولة أربيل، ودولة السليمانية، براءتهم من التابعية الروحية والعقلية والعقائدية و(الجيبية) لدول الجوار، أو لأية دولة أخرى لا تخطر لنا على بال.
وحين يتعذر ذلك فلن يبقى أمامنا من خيار لتحقيق المصالحة الوطنية العراقية الجذرية والنهائية التي نريدها ويريدها لنا الأقربون والأبعدون سوى أن يجلس الولي الفقيه والملك سلمان وأردوغان وترامب ونتياهو في غرفة مغلقة، لكي يتصالحوا، على أن يُمنع دخولها على وكلائهم العراقيين، قاطبة، عمار الحكيم ونوري المالكي وهادي العامري وابراهيم الجعفري وأياد علاوي وأسامة النجيفي ورافع العيساوي وخميس الخنجر وسليم الجبوري، في انتظار القرار.
ولكن هذا الأمل يتحقق فقط حين يبيض الديك، وليس ذلك على الله ببعيد.
مقالات اخرى للكاتب