أصعب اللحظات في مجلس العزاء هي لحظة الغروب. طيلة النهار يمتلئ البيت بالمعزين و(اللطامات) ما يخفف ألم الجرح.. وسواء كانت المواساة طقس او (واجب) فإن احساس المشاركة يجعلنا نحتمل الألم. ومع رحيل الشمس، تنسحب النساء واحدة تلو الأخرى ليخلعن وجوه الحزن فور اجتيازهن عتبة دار (أهل الميت)، بينما تتلفت صاحبة المأتم يمينا ويسارا لتجد نفسها وحيدة مع صورة من رحل، تحاصرها الوحشة، ولحظة يصرخ الحزن، لا تملك الثكلى الا ان تلطم وحيدة او تضرب رأسها بما يسنده من جدار.
سنوات الحزن موغلة في القدم، ومجلس الفاتحة لم ينتهي في بلدي منذ أن اطلق حراس البوابة الشرقية اول صفارة انذار. كم من السنوات مرت منذ 1980؟ ثلاثة وثلاثون سنة؟ ياله من مجلس عزاء يعبر حدود البصر والصبر.
حانت ساعة الغروب.. لملمت الشمس بقايا خيوط الدم لتغلق باب الذاكرة أمام شريط الموتى. تعب المعزّين.. فانسلوا واحدا تلو الآخر، عبروا الحدود بحثا عن فرح واحلام ملونة، وعلى مدى عشر سنوات غادروا جميعا، فلم يتبق من مجلس الفاتحة سوى سرادق دون (معازيب).. لنظل نحن.. بضعة افراد غرست اقدامهم في طين هذ الأرض.. وانحنت ظهورهم تحت صخرة الحكمة الأبدية التي مضغتها أفواه الجدات مع التبغ المحلي: يا أولادي.. العرض والأرض.
...انياب الحزن تغرس السواد ثانية لترفع الوحشة سؤال: لمن الأرض يا جدة؟ ماعاد لنا فيها شبرا.. اقتسموها بينهم تحت سرادق العزاء، وأجازوا سرقة دموعنا تحت مسميات الدستور والمحاصصة والشفافية والديمقراطية و و و ..
...كان هنالك زمن.. كانت فيه محلات البلد متشابهة.. ابتسامات شيوخه ودعوات عجائزه.. لعب اطفال المحلة عند المساء، غمزات العشاق.. اشارات الشوق ولفافات ورق ترمى عبر سياج.. حلقات الشباب تتذوق نكهة آخر كتاب طبعته بيروت وكتبته مصر ليقرأه العراقي.. صوت فيروز يرفرف على صباحات دجلة والفرات والغراف..
.. حينها كانت الافلام بالاسود والأبيض، لكن الحياة كانت ملونة والاحلام فراشات.
... في مسلسل (The walking dead) – الاموات السائرين- الذي مازال يعرض منذ سنوات، تغزو الارض اجساد جيش من جثث من ماتوا بسبب مرض ما فغادرتهم ارواحهم لتعود اجسادهم تعتاش على لحم الأحياء، وكلما أكلوا أكثر، كلما اتسع ملكهم لتصبح الأرض عالما للموتى.
... في كل وزارة، دائرة، مؤسسة، على قنوات التلفاز، وجوه المذيعات المبرمجة، المؤتمرات، التصريحات، مجلس النواب، حفلات التكريم، نقاط التفتيش، الشوارع، المدارس..
في كل مكان.. انتشر (الاموات السائرين) لينهشوا لحومنا، نحن من بقينا نعتاش على جرح وطن. يتشابهون في كل شئ، ختم على الجبين، محابس، عمائم بمختلف الألوان والاحجام، بدلات سوداء واخرى رصاصي وقمصان بنفسجية واخرى برتقالي.. بدلات لماعة وشعور مغمسة بالجل وجهاز ارسال، سيارات دفع رباعي واسلحة كاتمة للصوت، وحناجر تلتهم (المايكرفون) بتصريحات تشبه شريط (يعلّس) في جهاز فيديو قديم.
من أين جاؤوا؟ وكيف احتلوا حتى أحلامنا؟ وأي مرض ذاك الذين اودى بأرواحهم العراقية ليظلوا مجرد اجساد؟
حانت ساعة الغروب.. أتلفت حولي فلا أجد من يعزيني.. وأخشى أن يقتحموا علي داري.. لا أملك ما يغري للسرقة.. هي فقط روح تنفث غربتها كل صباح بحثا عن أحياء.
مقالات اخرى للكاتب