تعرضت الهوية العراقية إلى تدمير متواصل ذاتيا وخارجيا بحيث بات الشعب العراقي عاجزا عن التفكير في صناعة القائد، بل بات العراقيون لا يكادون يفرقون بين الحرامي زعيم العصابة (القائد الرابح) و(القائد الناجح)، وقد كشفت السنوات العشر الخوالي بعد سقوط النظام الديكتاتوري لصدام حسين أن العراقيين اعتادوا النمط الديكتاتوري في التعاملات اليومية وأنهم لا يزالون يقيسون حاجاتهم وطموحاتهم بمنطق زمن الحصار.
العراق ـ اليوم ـ بلد متخلف لا عن ركب التحضر العالمي وحسب، بل هو أكثر تخلفا عن نفسه في ما مضى من الوقت، ولعل نظرة عاجلة على شوارع العراق ومتنزهاته وملبس شعبه ولياليه قبل ثلاثين سنة من الآن تكشف عن حجم التقهقر الذي مني به العراقيون، وعن فداحة التردي في الذوق الاجتماعي وفي التفكير، وفي العمران، وفي اللغة وما تدخل اللغة في صناعته، كالخطاب اليومي الاعلامي والإداري وفي لغة الشارع والسوق وما إليها، إنه بحق أرذل الأزمنة التي تمر على العراق.
هذه المأساة (مأساة التردي العراقي Retrogression) شملت في وجهها الواضح إدارة الدولة بحيث وصل إلى (دوائر الدولة) من لا يجيد إيصال جملة مفيدة إلى سامعه، وصل إليها مزوِّرو الشهادات، ومنتحلو الأدوار والفاشلون في حياتهم ومهنهم وعلاقاتهم الاجتماعية، لتصبح المأساة أعمق بأن هؤلاء الفاشلين صاروا نماذج (سياسية، وإعلامية) لان الساحة العراقية باتت ملأى بهم، وبات غيرهم استثناء وباتوا هم القاعدة، وأي قاعدة! أسوأ من هذا التردي المأساوي أن العراقيين لم يعودوا يشعرون بالحاجة إلى قائد، بل صار النموذج المقتدى عندهم هو النموذج الأقدر على توزيع الغنائم عليهم، لذا تراهم يهرعون إلى (الفائز) منهم بدائرة من دوائر الدولة في الجيش أو في الشرطة أو في البرلمان، يريدون شيئا واحداً منه ـ لا أن يقود مؤسسته أو دائرته بنجاح لتحقيق الازدهار الاجتماعي في اختصاصه ـ بل لكي يشركهم في الغنائم التي استولى عليها، هكذا باتت الدولة غنيمة يتقاسمها (الإداريون) يستحدثون وزارات لكي يرضوا هذا الشعب الكسول، ويعملون جاهدين على إيصال أكبر عدد من المقربين إلى الدائرة التي يعملون فيها، وإلا فإن الشعب سيظل ناقما على هذا (المسؤول عن التعيين). شعبك يقودك إلى الفساد، ويعمل على إفساد ذوقك ورؤيتك. ((وأفسدتم علَيّ رأيي ـ الإمام عليّ). مهرجان المربد ليس بعيدا عما يدور في العراق، ولن يختلف عن أي دائرة من دوائر الدولة، إدارةٌ مربكة المفاصل، تحضيرٌ سيء التنظيم، اختيارات غير موفقة، لأن الدرجة الأعلى في سلم الدولة أكثر إرباكاً من القائمين على المهرجان نفسه. هل ثمة مجلس أعلى للثقافة في البصرة: لا. هل ثمة إدارة معنية بالإعداد لمهرجان المربد: لا. هل هناك تنسيق واضح الملامح بين وزارة الثقافة واتحاد الأدباء العرب على الأقل، وبين الوزارة ومحافظة البصرة: لا. هل المسؤولون التنفيذيون قادرون على إدارة مهرجان أصلا: لا. إذاً فلتصرف وزارة الثقافة مبلغاً من المال المودع لديها دون (خطة واضحة للصرف)، ولتضيف محافظة البصرة مبلغاً تكميلياً، ولينافسها في هذا الصرف مجلس محافظة البصرة، لتوزع الجلسات في قاعة بن غزوان مرة، وفي جامعة البصرة، ثانية، وفي المركز الثقافي النفطي، أو في قاعة الشيراتون أخرى وليتم التصفيق للشعراء، وتوزيع الطعام والمنام بشكل عشوائي، ولنعلن أننا انتصرنا في أخت المعارك أو في أب المهرجانات.
ليس هذا هو المربد الذي نريد، ليست هذه هي الدولة التي نريد. مربدنا الذي نريد يبنى على تخطيط واضح لهويته، ولأهدافه، لبرنامج عمله، ولجمهوره. لقد انتهى عصر صدام، فلماذا لا نعيش عصرنا أيها الأصدقاء، عصراً يمكن أن يصنعه مهرجان (لول).