في ضوء هيمنة الأحزاب الإسلاموية على ساحة العمل السياسي في العراق منذ 2003 وحتى هذه اللحظة قد يبدو الخوض في هذا المضمار فيه الكثير من التفاؤل غير المستند على مرتكز يعزز قاعدة الاجابة عليه، كما ان الوصول الى اجابة علمية تعني ايجاد بديل في القوى والتيارات والشخصيات الوطنية الديمقراطية التي بدت عاجزة عن الامساك بزمام المبادرة مجدداً مستثمرة كما ينبغي حاجة المواطنين وتوقها الى منقذ مما هي عليه الان.. ومع ذلك فان طبيعة التحدي الكبير الذي يواجه العراق بسبب الطائفية السياسية تدفعنا اكثر من اي وقت مضى الى استمرار التشبث بتلابيب الامل واستمرار الطريق لبناء منظومة مؤسسات مدنية نرى فيها بداية تصحيح مسار النظام السياسي ليكون فعلاً ملبياً لتطلعات الملايين من المواطنين التي اثبتت في كل تحدٍ انها جديرة بحياة كريمة.
كما ان من طبيعة كل الحركات المؤمنة بإرادة الشعب وقدرته على التغيير أنها لا تعرف اليأس والا فأن ذلك يعني التسليم بان التاريخ لا يمشي الى الامام.
ما يمر به العراق ومعه بلدان الربيع العربي، مع فارق ما حصل بين الاثنين خاصة في ما يتعلق بأداة التغيير في أنظمة الحكم وظروفه، فيه الكثير من خصوصية للمرحلة الجديدة فللمرة الأولى بعد سنوات طويلة بدأ المواطن يشعر بانه فوق الوصايات المتعالية عليه ولأهمية تجاوز الاوصياء عليه، وفي ضوء ذلك ينبغي النظر الى مسألة الطائفية السياسية كما هي ومناقشة ما حصل بموضوعية للوصول الى اجابة محددة للتساؤل المطروح. فلم يكن من المستغرب ان تسيطر الاحزاب والقوى الاسلاموية بعد 2003، على حيز غير قليل من المشهد السياسي في ضوء ضعف التيارات الديمقراطية والوطنية وانحسار تأثيرها لاسباب عديدة، لكن ما ضاعف من قوة التيارات الاسلاموية وخدم توجهاتها لاحقاً عدم تمكن القوى الديمقراطية من طرح رؤى واضحة تميزه عن غيره، ما جعل المواطن الذي عانى اليأس ينظر اليها بنفس نظرته إلى القوى الجديدة التي تصدرت المشهد، بل وجعله يعدها عاجزة في أحيان كثيرة. قد يزعج ما نقول البعض لكنها مع الأسف هي الحقيقة، فقد كان من الصعب علينا كمواطنين ان نجد فارقاً بين الاتجاهين، بل ان الكلمة الاولى والاخيرة كانت للطرف الاخر الذي حمل الصبغة الطائفية وتاجر بها، في حين ان العراقيين جميعاً وفي الغالب وبفطرتهم كانوا قد سبقوا من بقي من التيارات الوطنية منساقاً الى المحاصصة الطائفية وظل يتطلع الى من يفترض ان يحمل المشروع الوطني بجدارة استناداً الى تاريخ طويل من العمل السياسي.
قد يكون مقبولاً ان نجد الأعذار لبعض القوى الديمقراطية في البداية للمخاطر التي تهدد العملية السياسية وضرورة ترسيخ الصفوف لكل الاطراف من دون استثناء وعدم المواجهة المباشرة، غير ان هذا لا يبرر حالات العجز التي بقيت عليها، وكان عليها وفي اطار الاجواء الديمقراطية المتاحة ان تعبر عن موقف رافض وصريح للطروحات الطائفية.. موقف يجعل برنامجها امام العراقيين اكثر وضوحاً سواء ما يتعلق بالمحاصصة واستمرارها كنهج كرس لاحقاً لتهميشها وابعادها عن اي دور فعلي سواء في مجلس النواب او الحكومة بل حتى في الحوارات للبحث عن معالجات واقعية للازمات التي تعصف بالعملية السياسية.
يستشهدون بالقدرات التي صارت تمتلكها القوى الإسلاموية باعتبارها هي التي مكنتها من تحقيق كل هذا النجاح في الانتخابات السابقة والحالية، غير ان هذه الإمكانيات التي تحتكرها، ما كان لها ان تنتشر بهذا الشكل لو استطاعت القوى الديمقراطية ان تعيد حساباتها بشكل علمي لتستعيد ثقة المواطن بها وببرامجها، ويكون لها رأي واضح وموحد ازاء المشكلات التي يعاني منها العراقي في الجنوب والفرات الاوسط وبغداد والوسط وكل مناطق العراق الاخرى.. برنامج يطرح سبب المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ويضع المعالجات الواقعية وتشخيص مسؤولية كل طرف في ما آلت اليه الاوضاع في العراق. كما كان على قوى الديمقراطية ليبرالية ويسارية ان توحد جبهتها إزاء التيارات الطائفية التي أعلنت بوضوح في اكثر من مناسبة رفضها لأي طرف سياسي يتقاطع وطروحاتها في إدارة البلاد على وفق نظرية التفويض الإلهي!
لا نريد ان نغمط جهود التيارات الديمقراطية ولا سعيها الى ايجاد مخرج وطني لازمة العملية السياسية، سواء من خلال مؤتمرات طرحت الكثير من التصورات او ببيانات هنا وهناك، غير ان الواقع يشير الى أنها ما زالت دون مستوى الهدف، كما ان طروحاتنا لا تهدف الى إنكار الدور الكبير للتيارات الدينية، ولكن بعد كل هذه السنوات التي جاوزت العشر، لابد من الإقرار بان هنالك اخفاقا كبيرا لا يجوز السكوت عنه حتى لا تضيع احلامنا ودماء الشهداء سدى، لذا فان التشخيص الدقيق لما عشناه يشير الى ان ليس هنالك من حلول بغير دولة مؤسسات مدنية يحس فيها العراقي عربي او كردي او تركماني.. مسلم او مسيحي او صابئي او اي مكون آخر بكرامته.. نظام قادر على تخليص كل مواطن من عقدة الخوف من التهميش او الاقصاء.. فالطائفية ما كان لها ان تظهر بهذه الصورة لو ان التيارات الوطنية اسلامية متنورة ومعتدلة او يسارية او ليبرالية ان تبرز فعلاً في ساحة المشهد السياسي الموغل بالطائفية السياسية. ومطلوب وانتخابات مجلس النواب قريبة لا تفصلنا عنها غير اشهر معدودات ان تعيد هذه التيارات تقييمها لاساليب عملها، وتستنبط الوسائل الكفيلة بسحب البساط من القوى الطائفية وهذا لايتحقق من دون اعادة الاعتبار للحمة الوطنية الجامعة، وكشف زيف الشعارات التي تتستر بالدين لفرض وصايتها على المواطنين واستمرار تضليلها بشعارات طائفية لاستمرار استغلالها وجني المكاسب على حساب تضحياتها.
قد يبدو الطريق الى تجاوز الطائفية السياسية صعباً لكنه ليس مستحيلاً اذا ما توحدت جهود القوى المؤمنة حقاً بالديمقراطية وبالإنسان، واستثمار فسحة الحريات لمنح كلمة الوحدة والوطنية معناهما الحقيقي. مع الاعتذار الشديد لكل الشخصيات والقوى الديمقراطية التي ضحت وقدمت المزيد واختارت الانحياز الى الشعب غير ان الموجة كانت اقوى واكبر. ولكن مع ذلك فأننا مازلنا بحاجة ماسة الى وقفة صريحة ونقد للذات يتناسب وحجم التحديات التي تجابهنا، ولابد من الاعتراف باننا لا ندعي إيفاءنا للموضوع حقه غير أننا حسبنا فتحنا الباب لمناقشته بشكل اوسع واعمق من قبل من هم اقدر واجدر منا.
مقالات اخرى للكاتب