تقرأ هذه الايام في موقع عراق القانون مقالات مطولة لكتاب كانوا يصفون انفسهم بالماركسيين، الا انهم تحولوا الى الطائفية والشوفينية على غرار شخصية الترانسفورمر الكارتونية، نزعوا كل الصفات التي كانوا يغدقونها على انفسهم، من شيوعي سابق، ماركسي، انساني.. الخ الى خدمة المالكية، كنقيض للفلسفة الماركسية، فاغرقوا انفسهم بالطائفية والشوفينية والتبريرية، للاسف.
فعلا، من المؤسف ان يتحول هؤلاء من "صوت" الى مجرد "صدى" يرددون ما تمليه الماكنة الاعلامية الحكومية، او سلطة السيد المالكي بالتحديد، يوم يمتدحون الصدر، ويوم يذموه، ويوم يمتدحون الكرد ويوم يذمون، ويوم مع السنة واخر يذمون. كل ذلك حسب موجات الاعلام الرسمي، واستدارة المواقف السياسية لشخص رئيس الوزراء. هكذا تركوا اقلامهم تنساب بلا ارادة بين اصابع اصحاب المواقع الغنية، المرتبطة بالوزارة.
اليوم يتوجه الاعلام الحكومي الى محاربة السنة، والاكراد، معا، لان كل منهما يمثل خطرا على تولي السيد المالكي للولاية الثالثة، ومن الطبيعي ان تكون ساحة الصراع مع السنة هي الطائفية، فانزلق هؤلاء الكتاب الى هذا القاع بحجة ان السنة دواعش، ومن الطبيعي ايضا ان تكون ساحة الصراع مع القومية الثانية هي الشوفينية، فلم يتوانى هؤلاء الكتاب من النزول لهذا القاع ايضا.
وكان من المفترض ان يلتزم الكاتب الواعي، الذي سنحت له الفرصة في يوم من الايام للاطلاع على الفكر الماركسي، وعلاقته بالطوائف والقوميات، ان ينقل لنا التجربة الماركسية باعتبارها ارقى حل انساني لهذه المشاكل، وهناك تجارب ثرية لا حصر لها في القرن العشرين، تمتد على مساحات شاسعة من العالم، من الصين الى شعوب الاتحاد السوفياتي وشرق اوربا، الى بعض بلدان في افريقيا واسيا.
فالماركسية في جوهرها لا تصنف المجتمعات الانسانية كقوميات وطوائف، وانما تقسم السكان الى ظالم طبقي يستأثر بثروة المجتمع، ومظلوم كادح لا يصله سوى النزر اليسير من هذه الثروة، ولهذا لم يتأثر الماركسيون الحقيقون بالمشاعر الطائفية، ولا الشوفينية، وهذا هو بالتحديد سر نجاحهم في حل تلك المشاكل.
ولعل من اروع التجارب التي قدمها الماركسيون للانسانية هي ما قام به الماركسيون اللينينيون "الروس" عندما قسموا اراضي روسيا القيصرية، حال وصولهم الى السلطة، الى 15 جمهورية فيدرالية لم يكن لها وجود اصلا، بالاضافة الى مئات المناطق ذات الحكم الذاتي في كل هذه الجمهوريات، حسب الانتماءات القومية والطائفية، من اجل نزع فتيل التعصب القومي والطائفي. وكانت النتيجة ان انقسمت اكبر بلاد في العالم الى 15 دولة دون اراقة دماء، وانقذوا حياة الملايين من البشر.
وهنا اشير الى ان الماركسية اعطت الاولوية لحق تقرير المصير للشعوب والقوميات المتمايزة بما فيها حق تشكيل الدولة المستقلة الناجزة، ولا يمكن ان تتساوى الحقوق بين الشعوب اذا كان احدها يتمتع بدولة مستقله من دون ان يكون للشعب الاخر نفس الحق.
الا ان الماركسيين العراقيين "شكل تاني". فمن الكتاب "الماركسيين" لموقع عراق القانون هو السيد حسن حاتم المذكور، يقول عن نفسه بانه شيوعي قديم، منذ العهد الملكي، ويعنف في احد مقالاته السيد حميد مجيد موسى، سكرتير الحزب الشيوعي العراقي في احد مقالاته:
"لا اعتقد ان حضرتكم من جيل الخمسينات، كما لا اعتقد ان اصابعك قد احترقت بلهيب الانقلاب الفاشي في 8 شباط 63.. وليس من جيل الشهداء الذين دفنتهم انحرافات الحزب وتحالفاته وتبعيته في مقابرها السياسية والتنظيمية الجماعية.
انا واحد من جيل الستينات الذين كرر الخط العام للحزب اعادة تصفية معنوياته واتمانه وثقته واحلامه" .. الخ، يعنفه لانه اضطر الى التحالف مع قائمة اياد علاوي مرة، لأن:
"ضمن قائمة اياد علاوي قوى عنصرية وعشائرية وسلفية اضافة لمجرمي حزب البعث".. الخ (*)
اي انه شيوعي اكثر من الحزب نفسه، يقف في الخندق المعادي للقوى العنصرية والعشائرية والسلفية.
اما ما يخص حق الشعوب بتقرير مصيرها فيبدي فهما علميا، خصوصا في حق شعب كردستان في الاستقلال، ويوضح وجهة نظره بالاتي:
"سألت جنوبيا عن رأيه في ان تتحرر كردستان وتجمع اهلها في دولة مستقلة جارة مسالمة نافعة للجميع...؟
اجاب: الحرية افضل طريق للتوحد الانساني.. وفي جميع الحالات تبقى اربيل وكذلك السليمانية في اماكنها مثلما هي الحال بالنسبة الى العمارة والبصرة، ويبقى الجميع يرضعوا من دجلة الزلال وفاء.. انها الوحدة الوطنية وكذلك الاقليمية في اطارها ومحتواها الانساني لحرية تقرير المصير." (**)
وبالتأكيد لا يمكن لاي انسان الا ان يحترم هذا التوجه الانساني الواعي، الذي يسمو على التخندق الطائفي والشوفيني، ويؤسس لعلاقات انسانية متحضرة راقية تشبه الى حد بعيد ثقافة احترام الانسان في اوربا.
ولكن يبدو ان الاحداث الاخيرة قد غيرت اتجاهات البوصلة، او غربلت المفاهيم واولوياتها مثل ما يحدث في ورق اللعب قبل توزيعه على الطاولة، فما حدث بعد 10 حزيران في الموصل هو انسحابات للجيش العراقي من محافظات الشمال الغربي، ويبدو ان الحكومة العراقية وكجزء من صراعها مع قيادة اقليم كردستان حملت الاقليم بشكل يثير السخرية مسؤولية هذه "الهزيمة" من اجل ان تخلي مسؤوليتها المباشرة اولا، وان تحصد نقاط اكثر في اجتماعات النواب الجدد، على هامش تشكيل الحكومة الجديدة، على حساب القائمة الكردستانية.
فكان دخول قوات البيشمركة الى كركوك "بطلب من المالكي" من اجل ان لا تقع هذه المحافظة بيد قوات داعش، فتقيم مجازر انسانية ضد سكانها الكرد، وشيعة التركمان، ثم تستخدم فوق ذلك كقاعدة مؤمنة لدخول بغداد، كان ذلك الطلب اشبه بفخ اعلامي من اجل اصطياد البارزاني باقلام هذه النخبة من الكتاب.
وهنا على الكاتب الماركسي ان يكون اكثر دقة في التحليل وان لا ينساق الى تبريرات سلطة فشلت في الدفاع عن الارض ففقدت اربع محافظات في غضون 48 ساعة، وان لا ينساق، مثل رهط الكتاب الادنى وعيا الى مبرراتها، وان لا ينجرف في خارطة عداءات السلطة، على الاقل في ما يخص الشعوب، ومصير ملايينها.
ولكنه، وبعد كل ذلك ينسل ليضم نفسه الى جوق كتاب موقع عراق القانون، فتتدنى به اللغة الى:
"عائلة النجيفي تلعط سفلس خيانتها، ونحن هنا شهود زور على عبثية صراعات المثلث الشيعي من داخل التحالف، حيث يعاد قتل الحسين (ع)، عنصريي الاكراد ابتلعت شهيتهم ارض عراقية، رسموها في مخيلتهم (متنازع) عليها، ثم استقطعوها عبر دسيسة تفتقر الى الشرف ووضعوها خلف حدود الامر الواقع، سيرسمون متنازع عليها اخرى على حساب الضعف العراقي، وهكذا يرتفع سقف احلامهم حتى يروا الكويت حدودا جنوبية لامبراطورية برزانستان العظمى".
ويخلص الى "هكذا استورث الكورد وظيفتهم خنجر في خاصرة العراق" (***)
هل هذه هي حصيلة تجارب ماركسي خبر حقوق الشعوب وحقها بتقرير مصيرها، هل اصبح حق الشعب الكردي هو برزانستان؟ والنظال من اجل حق تقرير المصير هو خنجر في خاصرة الدولة المركزية؟!
اليس من المؤسف ان يتهاوى قلم كان حرا، الى هذه الهاوية، والذي كان شاعرا، الى لغة الاسفاف التحريضية، والرصين العلمي الى خطاب تحريضى بهذا التدني؟
مقالات اخرى للكاتب