اينما اتجه اسمع شكوى ومعاناة من سوء التعليم ومن فساد النظام التعليمي ومن انعدام التربية الاخلاقية في المدارس، وما ادى ذلك الى نتائج سلبية من جهل وعادات بالية وتقاليد وثقافة مغايرة تغزو المجتمع العراقي. ولم تعد الحلول الترقيعية او الاجراءات الجزئية او القرارات الاعتباطية وغير المدروسة تنفع في النهوض باوضاع المدرسة كي تضطلع بادوارها التربوية والتعليمية لبناء الانسان العراقي، ولن تستطيع من أذابة الجمود التربوي وازالة اسوار الحصار الداخلي والقضاء على الفساد من دون توفر رؤية استراتيجية للاصلاح وتكوين مدرسة مهارات وجودة واخلاق.
حذرنا سابقا ونعيد التحذير من عدم التعامل بكل جدية وحزم مع موضوع اصلاح التعليم، حيث انه اذا لم يتم اصلاح التعليم جذريا والاكتفاء باتخاذ بعض الاجراءات الجزئية، فالعراق سيسصطدم لا محالة بتفاقم الازمة وانهيار النظام التعليمي برمته مما سيخلق حالة ثقافية شاذة قوامها الفساد والتسيب وضعف المعرفة، وهذا التحذير موجه بالخصوص الى وزارة التربية والى البرلمان العراقي.
من مظاهر عدم التعامل مع هذه الازمة واعتبار ان كل ما يحدث طبيعي واعتيادي وليس فيه ما يثير القلق، هو تفاقم فساد المدرسين وعدم الايفاء بمتطلبات مهنتهم واحتماليات انقراض التعليم الحكومي المجاني في الامد القريب نتيجة فقدان ثقة الناس بالتعليم في المدارس الحكومية. وبرغم كون الجامعات ليس إلا مدارس ثانوية عليا ولها مشاكلها الخاصة الا انها تعاني من ضعف المدخلات نتيجة ضعف التعليم والتعلم في المراحل المدرسية الاولية والثانوية وضعف التاهيل وتدريب المهارات.
والمظهر الاخر، هو "ضعف الهيكل التنظيمي، والبنى التحتية، والتجهيزات المدرسية، وتخلف مستوى المناهج المدرسية واعتمادها على الحفظ والتلقين، وغياب المواد التي تنمي الحس النقدي للطالب، وتمكنه من أسلوب تفكير وتحليل منطقي" على ضوء دراسة صادرة عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية والتي رسمت صورة قاتمة لجودة قطاع التعليم في الدول العربية حيث نبهت الدراسة "الى أنه ما دامت الجودة ضعيفة في المدارس العربية التابعة للقطاع العام، فإن قدرات هذه الدول على تحقيق نسب كبيرة للنمو الاقتصادي والرفع من ناتجها الداخلي الخام ستظل محدودة". وصمة عار على جبين الدولة النفطية ان يدرس ابنائها في اكواخ وبنايات متهرئة لا تصلح حتى لتربية الحيوانات.
والمظهر الثالث، هو ضعف الاهتمام بالتربية الاخلاقية وفي غرس الاخلاق المدنية من سلوك ومواقف وقيم في نفسية الطالب وعدم اعتبار الاخلاق امراً مرتبطاً الى حد كبير بالتربية السليمة، وببيئة الشخص ومجتمعه، وتفتقد التربية السليمة للطالب حتى تدريس الاخلاق الدينية في درس الدين وبث روح التسامح والتآخي، وقد يعود هذا الى ضعف التكوين التربوي للمعلم اوالمدرس، والى ضعف الاهداف التربوية لدرس الدين. وتعود الحاجة الى تربية الطالب تربية اخلاقية سليمة الى ان المجتمع العراقي يعاني حاليا أزمة أخلاقية ربما تؤدي إلى انهياره، و من اسبابها انحطاط الوعي، و سقوط الأخلاق في أوساط قطاعات واسعة من هذا المجتمع ألذي لم يستطع إلى الآن تنظيم مسيرة حياته السياسية و الاقتصادية و الثقافية على أساس حضاري عادل و عصري.
المظهر الرابع يتمثل في تفاقم ظاهرة الغياب والتسرب وازدياد الامية والجهل وانتشار المعتقدات الدينية المتطرفة والمنحرفة وتعاظم التهديدات المجتمعية، والتي تواكب تلك الظواهر. فهناك، وباعتراف رجال
السياسة والدين والتربويين والمربين بوجود ازمة في المعارف والقيم والاخلاق المتعلقة بالسلوك الانساني، وبعدم قدرة المناهج الدراسية على تنمية شخصية العراقي كفرد يفتخر بالانتماء لمؤسسته سواء كانت مدرسة او جامعة او دائرة حكومية او مصنع، وكعضو صالح ومنتج في مجتمع ديمقراطي حر، وكمواطن ملتزم بالقوانين.
لم يعد من وقت لانقاذ التعليم من الكارثة ولابد البدء من اليوم في وضع الخيارات والخطط والسياسات، بالرغم من اعترافنا بعدم وجود تحليل عميق حاليا نستند عليه لواقع التربية في العراق، وبعدم وجود تقييم كامل للمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي يمر بها المجتمع العراقي، كبداية لاصلاح واسع وشامل وذلك بتحقيق الاهداف التربوية التالية:
1- تربية الطالب بثقافة المحبة والاخاء بين القوميات والاديان والطوائف ونبذ التعصب بكل اشكاله.
2- تربية الطالب بثقافة الاعتراف بالآخر وثقافة السلم وبالقيم الديمقراطية واحترام حقوق الانسان، واحترام التعددية والاختلاف.
3- ألتأكيد على مبدأ المواطنة الصالحة وحب العراق ووحدته.
4- تربية الطالب بأهمية القوانين واحترامها وبعدم مخالفتها وبحرمة ممتلكات الدولة واموالها، وبتعريفه على حقوقه وواجباته.
5- تنمية الشخصية وحب الاستطلاع والتفكير النقدي المستقل، وحب القراءة والمطالعة، وممارسة السلوك المتمدن والعمل التعاوني والمبادرة عند الطلاب.
والمظهر الخامس يتجسد في الضعف الكبير للتكوين اللغوي والعلمي للطالب وقدرته على التعبير. ليس هناك في الوقت الحاضر اسلوب واضح لمعالجة ضعف تعليم اللغات وجعل المدرسة وغيرها من المؤسسات التربوية ميادين التجديد، ولا في تبني المستحدثات الحديثة من خلال الانفتاح على الحضارة المعاصرة والاستفادة من تجارب الشعوب. يعاني منهج تدريس اللغات في المرحلتين التعليميتين، الابتدائي والثانوي، من اهمال كبير، وينعدم التركيز على المهارات الأساسية التي تمكننا من مواصلة التعليم والتعلم باللغات الأخرى خصوصا اللغة الانكليزية التي تنقل منها العلوم والمعارف والمهارات.
إني مقتنع بأن تخلفنا العلمي والتكنولوجي يعود بدرجة كبيرة الى تخلفنا في اللغات العالمية، لأنها الوسيلة الأساسية في اقتباس المعلومات وكسب العلوم ونقل التكنولوجيا، وبها أيضا ننقل علومنا وابتكاراتنا واكتشافاتنا وكل ما يمكن ان نساهم به لتطوير الحضارة الانسانية الى العالم. كما يعاني تدريس العلوم خصوصا في المدارس الابتدائية من ازمة فائقة تحتاج الى معالجة سريعة وتنبع ضرورة ذلك الى ان الثقافة العلمية اصبحت من طبيعة هذا العصر ومتطلباته خصوصا في مجتمع تنتشر فيه الخرافة و المعتقدات المخالفة لاسلوب التفكير العلمي. ولتدريس العلوم والتكنولوجيا يحتاج المعلمون والمدرسون الى زيادة ثقافتهم العلمية وبث روح التنقيب والتجربة والبحث فيهم. اين نحن من تعليم اطفالنا العلوم ولماذا لا يدرس طلبة الصف الاول الابتدائي العلوم، ولماذا لا نغرس في اطفالنا روح التنقيب والبحث منذ الصغر كما هو عليه في كل مدارس العالم.
وبينما تكون العائلة على معرفة وثيقة بأمور الدين وتحرص على تربية اطفالها تربية دينية ملائمة نجدها على جهل كامل بالعلم ومنجزاته مما يتطلب الامر ان تكون المدرسة جاهزة لتدريس العلوم بأكثر مما هي عليه للدين، وما اتخذته مصر من قرار في أن تدرس مادة للاخلاق وهي مادة تدرس في أكثر من 100 دولة تعلم الطالب سلوكيات الحياة الحميدة وتحض على التعاون وهي مستمدة من كل الشرائع السماوية وتحض على التطوع والخير والرحمة ما هو الا قرار صائب يمكن أن يكون بديلا عن مادة الدين.
ولتفادي انهيار التعليم المدرسي بالكامل ليس امام العراق الا خيار وحيد، يتمثل في بذل اقصى الجهود من اجل وقف نزيف الانحطاط، والتدهور المريع في مستويات المعرفة، ومواجهة هذا التحدي الكبير بتأهيل التعليم المدرسي ضمن برنامج اصلاحي متكامل ليكون ضمانة لتحصين المواطن والمجتمع من آفات الجهل والارهاب والفساد، ومن نزعات التطرف والاقبال على الاقتباس والتقليد، ومن الانشغال بتتبع المواقع الجنسية والاباحية. اننا امام صورة كارثية تتمثل بنهاية التعليم الحكومي واستبداله بالتعليم الاهلي، وفي غصون سنوات معدودة في حال الاستمرار في التعاطي مع ملف التعليم بإجراءات مستعجلة واساليب بالية، وما علينا لتفاديها الا بمشروع اصلاحي كبير تتركز اهدافه التربوية على مثلث الاخلاق واللغات والعلوم.
فهل من يسمع؟
مقالات اخرى للكاتب