كنت في طفولتي أسافر كثيراً وحين كبرت كففتُ عن السفر.
غبتُ في بلدان غامضةٍ بعضها لا أعرف اسمه، مهاجراً أبدياً كنتُ، ليلي ونهاري تطواف في عواصم ضاجة وقرى نائيةٍ ولغات تكلمتها تلقائياً دون أن أتعلمها لأن أهلها يعرفون كيف يكلمون الغريبَ بلطفٍ ويسمعونه بلطفٍ حتى لو لم يكن له لسان.
أنا الطفل كنت أدفن وجهي في أطلس العالم، حولي أهلي ينادونني لكني لا أسمع، كنت مسافراً، وحين انتبه للنداءات اللحوحة ألقي كتاب الأطلس من يدي وأذهب إلى أمي وثيابي ملأى بغبار سفر طويل.
أعظم الهدايا التي أعطيتْ لخيال الطفل ذلك الأطلس الذي جمع العالم كله في كتاب، كنت في الأول الابتدائي حين سافرتُ إلى كندا أول مرة، أحببتها مذ رأيت خريطتها "خريطة ملأى برسوم للحيوانات التي تشتهر بها تلك الدولة"، لم تكن بعيدة جداً، كان يفصلها عن العراق "المرسوم باللون الأحمر" شبر واحد بقياس يدي الصغيرة التي ما أن تشير إلى بلد حتى يستقبلني أهله بحفاوة.
فقدتُ طفولتي ففقد كتابُ الأطلس سحره، أصبح مجرد ورقات ملونة فيها خرائط وصور، لم يعد يصلح للسفر، وانتهتْ تلك القدرة الربانية على أن نحرث العالمَ سفراً أبدياً ونحن في أحضان أمهاتنا، تلك المَلَكة التي تهبنا القدرة على أن نهاجر بعيداً عن أهلنا فيما نكون فوق سطح البيت نتطلع في شقّ جدار. انقضتْ وصرنا مقيمين للأبد.
اين اختفتْ تلك البلدان؟ لم أعد أقدر على السفر إلى تلك الأمكنة حتى حين أكون فيها، عشتُ سنوات في كندا لكني لم أكن مسافراً، حين رأيتها في الأطلس كانت مكان سفر، أما الآن فهي محلّ إقامة.
لم أعد أسافر، هذه المطارات والجوازات وأختام التأشيرة والفنادق واللغات الكثيرة لا تفعل شيئاً سوى أن تنقلني من إقامة إلى إقامة، من شارع إلى شارع ومن بيت لبيت.
صارت المسافة بين البلدان كبيرة والسفر شاقاً والطائرات التي تأتي بالناس وتذهب بهم تأخذهم من إقامتهم وتعيدهم إليها، إنهم لا يسافرون، أضاعوا كتاب أطلسهم فأصبحوا يرتحلون عسى أن يحظوا بسفر ولا يستطيعون.
أريد الآن ذلك الكتاب لأرى البلدان، لأهيم على وجهي في القارات، أريد أن أن أدفن وجهي في أطلس العالم فأتيه ولا يستدلّ عليّ أحد.