كنت طرحت في كتابي الموسوم ( الاعلام في البيئات المتأزمة ) الصادر عام 2010 سؤالا مفاده : أية ثقافة نريد ؟ منطلقا من ان الاجابة عن هذا السؤال كفيلة بتحديد هوية الدولة ، وبصرف النظر عن نوع الثقافة التي اتطلع لها والتي اظن انها المخرج السليم للازمة الخانقة التي يمر بها العراق ، الا ان هذا السؤال ظل من بين الاسئلة الكثيرة المسكوت عنها او التي لم تدرك فحواها بعض القوى الفاعلة في المشهد السياسي ، وظل المجتمع نهبا لثقافات شتى ، ما أوقعه في تناقضات حادة بلغت ذروتها في انقسامه على نفسه طائفيا وقوميا ، فبرزت التنظيمات المتطرفة وما استدعته من تنظيمات مقابلة، والحفاظ على الهوية الفرعية جوهر خطاباتها وان تسترت بلافتات مغايرة أحيانا ، ومن هذه الكوة تسللت التدخلات الاقليمية لتسّير الامور على هواها ، بحسب مصالحها في الخفاء وعلى وفق تلك الهويات في الظاهر ، وتوهم سياسيونا بذلك ، فشمروا عن سواعدهم السمر كل بالاتجاه الذي يظنه صحيحا .
ومع ان الدستور رسم شكل الدولة ، الا انه لم يحدد هويتها بوضوح ، وبسبب الهوية الهلامية ، وعدم الايمان الحقيقي بما رسمه الدستور ، انطلقت القوى والتيارات على اختلاف أشكالها لاشاعة ثقافة تؤمن بها من دون التبصر بما يمكن ان تخلفه تلك الثقافات من تصدعات اجتماعية ، والتغافل بقصد او بدونه عن ضرورة العمل على تكييف مشاريعها في اطار طني ومواكب لما وصلت اليه ثقافات الشعوب الاخرى من قيم مستحدثة فرضتها التطورات التكنولوجية والحضارية .
ان الهويات الفرعية تحظى باحترام الجميع ، الا انها تغدو هويات قاتلة اذا لم تتكيف وطنيا ، وتضعنا في نهاية الركب اذا لم تتفاعل مع ثقافة الاخر ، ومثل هذا يراد له ثقافة وطنية معاصرة لترسيخها في الوسط الاجتماعي . ولا يمكن لمثل هذه الثقافة ان تشيع مالم تتضمنها استراتيجية معدة بشكل علمي من مختصين أكفاء ، وتشتغل عليها جميع المؤسسات الرسمية وغير الرسمية .
اجزم وبلا ادنى تردد : ان المدخل الحقيقي لحل الازمة في العراق ثقافي ، والامثلة على ذلك كثيرة ، فلا يمكن لفرد او جماعة ان يكون ملاذا لمتطرفين او مدافعين عن طائفة بعينها اذا كان الشعور بالانتماء الوطني طاغيا ، والشعور بالانتماء عماد الولاء ، وهما مسألتان ثقافيتان بالاصل.
ما زلنا بالرغم من مرور أكثر من عقد على التغيير نعمل بطريقة عشوائية ارتجالية، فنضع المناهج الدراسية ونقوم بفعاليات ثقافية من دون ان تكون لنا مرجعية ثقافية وطنية . وتركنا الحبل على الغارب لضيقي الافق والذين تعشقت مصالحهم الضيقة مع الهويات الفرعية .
لقيد قيل هذا الكلام بأشكال مختلفة مبكرا ، الا ان قصار النظر وقتها انشغلوا بكيفية الوصول الى السلطة ، وان كان بعدها الطوفان . فالمناصب تعني المال والجاه والسطوة ، ولا أجدى منها نفعا !.
وقصار النظر في بلادنا ثلاثة اصناف ، نوع يشتغل على ثقافة تتعارض مع معطيات الحاضر والمستقبل ، وفي ذهنه نموذج يريد للدولة ان تكون على شاكلته ، متفاعل مع نموذجه بكل حواسه ، ويجد فيه مبررا لقمع الاخر، والثاني اتاحت له الآليات الديمقراطية الهشة الوصول الى دوائر صنع القرار وليس له من الذخيرة الا ثرثرة فارغة ، لا تغري سوى فضائيات أسسها اصحابها للابتزاز وليس للاعلام النبيل ، والنوع الثالث ينتمي الى رأس الشهر وليس للعراق ، فيفضلون الصمت على الكلام ، واظنهم لو تحدثوا لحمدنا الله انهم صامتون .
وفي هذا الوسط البائس ثمة افراد لديهم رؤية وليست لديهم قدرة ، ينتابهم اليأس مع المكابرة ، سيوفهم خشبية وقواعدهم مرتخية ، والناس بحاجة الى زمن ليس بالقصير ليدركوا ان النجاة بهم . ما أسعدني في هذه الدوامة اشارة السيد رئيس الوزراء في أحد مؤتمراته الصحفية الاخيرة بالحاجة الى عمل ثقافي لمرحلة ما بعد داعش ، اشارة سعيدة وان جاءت متأخرة ، لكن ما هو مضمون هذا العمل وكيف ؟ هنا تسكب العبرات.
مقالات اخرى للكاتب