مدخل
========
هناك نوعان من الحكم الحزبي , اما سلطة الحزب حيث يكون الحزب اكبر من السلطة بنظام شمولي , او حزب السلطة حيث يمسك الحزب بالسلطة وفق نظام ديموقراطي لفترة محددة .
ان ما حصل عندنا في العراق هي صورة مشوهة لحزب السلطة , فهو نظام حكم خاص وتلفيق بين الشمولية والديمقراطية , فتم استبدال الحزب الواحد الفائز بمجموعة أحزاب معظمها دكاكين وواجهات لدول تمارس سلطة الحزب بشكل جماعي , ومعظمها عبارة عن مافيات مالية.
وكما فعل حزب البعث فقد جرى اهمال بناء مؤسسات الدولة بل وهدمها لصالح تلك الاحزاب.
وبما أن الاستخبارات في جميع انحاء العالم هي من الوكالات الحكومية ولم تصلها الخصخصة وبحكم عملها ذو الطابع السري فقد كانت من المؤسسات الأكثر تضررا في عملية انهيار الدولة.
وهو انهيار حتمي مادامت الاستخبارات مسخّرة لغير واجبها الاساسي ومادامت في خدمة احزاب لاخدمة الدولة والشعب , فحتى اكبر جهاز استخبارات في الدنيا وهو جهاز KGB انهار حين صار همه حماية حزب وليس دولة فكانت نهاية الحزب والدولة.
ومن هنا فلابد من ان نتنبه الى مخاطر تسييس العمل الاستخباري او فتح مغاليقه امام الاحزاب المتنفذة في الدولة .
=====================
مخاطر تسييس العمل الاستخباري
=====================
ان الاستخبارات أجهزة جاذبة للصراع الحزبي وللتسييس لأنها أجهزة سرية وأعمالها لاتخضع للرقابة بشكلها الواضح , لذا يسهل تنظيم الأجنحة الحزبية والولاءات في عالم الأسرار.
فاذا دققنا في الخط الأول من قيادات الاستخبارات حاليا في البلد سنجد أن الجميع يبحث عن الولاء الحزبي لا المهنية والتخصص , وبما أن الجهاز الاستخباري هو سيف قوي لكشف الخصوم السياسيين وتنظيم ملفات لهم , فهنا يذهب ويتحول الصراع من تهديف على اعداء العراق إلى التركيز على اعداء السلطة والاحزاب , لذا تحولت البوصلة إلى العدو السياسي والتجسس عليه وتُرك الإرهاب والجريمة لتتغولا دون رقيب.
وزاد الصراع السياسي والحزبي والمحاصصة الطين بلّة حيث انتجوا نماذج من قيادات بعيدة في امكاناتها كل البعد عن تلك المناصب , فلو استعرضنا قيادات الاجهزه الامنيه وتفرعاتها سوف نلاحظ فقدان كامل للكفاءة وصراع النفوذ والتسلط.
كما ان غياب الحرفية في التعيين اوصلتنا الى تعيين رجل بمثابة سوبرمان يدير جهاز امنياً استخبارياً وبنفس الوقت يعمل رئيساً لهيئة عسكرية ويدير مستشارية الأمن الوطني , وكأن العراقيات عَقُمنَ عن ان ينجبن غيره!!!!!.
والغريب في الامر انه عندما رفعت الحكومة شعار الإصلاح والتكنوقراط , فانها اتحفتنا بتعيين صحفي على رأس اكبر الاجهزة الاستخبارية في البلد وهو استنساخ لما كان يقوم به صدام تماماً في فرض الولاء قبل الاداء .
====================
التدخل الحزبي يضيع البوصلة
====================
ان اية تجيير للعمل الاستخباري بمنحى طائفي اوقومي اوحزبي او فئوي اوسياسي اوعائلي سيقزم الاستخبارات ويمزقها.
ففي زمن النظام السابق تم تسييس الاستخبارات فصارت لا ترى من الجنوبيين غير العداء , والآن نحاول أن نثقف ان كل شيء في الغربية هو الشر, وهو نفس المنطق السقيم دون ان نتنبه الى ان الشر هو الشر بلا جغرافيا.
ان التأثير السلبي الكبير في تغول الأحزاب على حساب الدولة وتقزيم مؤسسات الدولة ومنها الاستخبارات جعل تلك الاخيرة غير فاعلة وضائعة وغير قادرة على حماية المواطن.
ان اغلب الأحزاب والتنظيمات تقوم بالتأسيس لجهاز استخباري داخلي , وكلما كانت الدولة بوليسية وعنيفة زاد خوف الحزب وانتهج الأسلوب السري فيوسع من نشاطه الاستخباري , وعندما يتمكن هذا الحزب او ذاك من مسك السلطة , فانه يتصور أن جهازه الامني هو الأمثل والأفضل لإدارة الاستخبارات في البلد فيسعى الى دفع عناصره لتولي المناصب الاستخبارية لضمان مصالحه , وغالبا ماتسند المناصب في الاستخبارات إلى هكذا أشخاص.
والاخطر من ذلك ان كل حزب في العراق لديه علاقات خارجية بدرجات متفاوتة ومخيفة احياناً, وهو يضع علاقاته الحزبية فوق مفهوم الدولة ويسعى لفرض رؤيته وهي رؤية الدولة الداعمة له , مما يربك الاجهزة الحكومية واولها الاستخبارات .
فبعض الأحزاب تعتبر تركيا العدو رقم 2 بعد داعش , وأخرى تعتبر السعودية عدواً وأخرى تعتبر إيران عدواً , مما افقد الاستخبارات التركيز على العدو .
فحتى 2009 كانت بعض الأحزاب والشخصيات العراقية المدعومة من دول الخليج تعتبر سوريا هي رمز الوطنية رغم دعمها الواضح لعناصر في تنظيم القاعدة الذي كان يقتل العراقيين وابرزها تفجيرات وزارة الخارجية حين اتهمت الحكومة علناً سوريا صراحة بدعم الارهاب .
وبعد ذلك انقلبت المعادلة , فاذا باصدقاء سوريا من العراقيين أصبحوا أعدائها ويتهمونها بدعم الإرهاب , فيما تحولت الاحزاب التي تعادي سوريا والتي كانت تتهمها (عن حق) بدعم الارهاب , فاصبحت تعتبرها مركز المقاومه , ولك ان تتصور الورطة التي تقع فيها الاستخبارات لقراءة المشهد طالما هي مكبلة بالتدخلات الحزبية التي تفرض عليها تصوراتها .
وعندما كان الزرقاوي يمزق اشلاء الابرياء , فان بعض قادة الاجهزة الامنية الاستخبارية (بحكم سكنهم في موطن الزرقاوي ) كانوا لا يشددون على العمل الاستخباري على الأردن .
لقد وصل الاسفاف في التدخل بالعمل الاستخباري لدرجة ان احد وزرائنا بحكم علاقته بأحد رؤساء الاجهزه الاستخبارية تمكن من مراقبة هواتف أهم كوادر الوزاره بين وكيل ومدير عام , وأخذ يحاسب هؤلاء مستخدما اية معلومات يحصل عليها من خلال المراقبة الهاتفية وهكذا يتم استغلال المنصب واشغال الاستخبارات بصراعات جانبية تدور أغلبها على تقاسم الغنائم والمال الحرام.
بل وصل الصراع الحزبي داخل الاجهزة الامنية الى اشدّه , فقد حدثني ضابط برتبة لواء أنه أقيل من منصبه في وزارة الداخلية في الانتخابات الأخيرة لأن زوجته ترشحت للانتخابات من حزب منافس لحزب مسؤوله الأعلى في الوزارة.
ولم تكتف الاحزاب بفرض تصوراتها ( ومن خلفها الدول الداعمة) على الاجهزة الاستخبارية , وانما قامت بالتغذية العكسية لتلك الدول من خلال شفط المعلومات الاستخبارية وتسليمها الى تلك الدول , لاسيما وان هنالك دوائر واقسام استخبارية معنية (او هكذا يجب ان يكون ) بمتابعة انشطة دول الجوار على اراضيها .
ذلك بان قامت الاحزاب بدعم تعيين افرادها في تلك الدوائر ليسرقوا ويستنسخوا كافة اسرار الدولة ونقلها الى احزابهم , ومنها الى الدول الراعية , فما بالك حين يتسيد موالي حزبي على تلك الدوائر بسلطات مطلقة ؟
كما ان من المفارقات الهزلية ان الحكومة تردد شعار أبعاد التحزب عن الاجهزة الامنية ولكنها تسمح لبعض القيادات في الاجهزة الامنية بالمشاركة رسمياً كمرشح في الانتخابات بمخالفة صريحة للقانون فيقوم باستغلال كل إمكانيات الأمن اثناء الحملة الانتخابية ,فينجح و يذهب إلى البرلمان ثم يستقيل ليعود للعمل في جهازه الأمني بكل انسيابية لاتتناسب مع اية بيروقراطية في العالم, وفوق كل ذلك , عندما يحدث شي يخرج القادة السياسيين ويقولون اين دور الاستخبارات متناسين انهم دمروها ومزقوها .
==================
اصول العمل الاستخباري
==================
ان الاصل في العمل الاستخباري ان يكون مطلق السراح في تصوراته, فالاستخبارات تعمل بشكل غير مشروع ويجب ان تفكر بشكل غير مشروع , لذا فانها لاتهاب في تقاريرها الداخلية وفي رقابتها اية امتيازات لاي رمز سياسي في الدولة , ففي الاستخبارات لايوجد استثناء من ظلال الشك ,ولها ان تراقب من تشاء وتشك بمن تشاء وهذا لايمكن ان يتم في ظل استخبارات مسيسة وخاضعة لاحزاب السلطة .
ففي مصر , خلال سنة من حكم مرسي الاخواني , حاول ,ولم يستطع , ان يخترق الغرف المغلقة للاجهزة الاستخبارية , بل استمرت الاستخبارات بمراقبته ومراقبة تحركاته وتسجيل مكالماته .
لذا ينأى رؤساء الوزارات ورؤساء الدول في الدول ذات الديموقراطيات العريقة عن ان يحرجوا انفسهم بمطالبة الاجهزة الاستخبارية بالاطلاع على اسماء عملائها , لانه اذا كان اليوم في السلطة فغداً خارجها , لذا هو يطالب بالخلاصات دون تفاصيل لايحق له ان يطلع عليها , بل لايحق له ان يدخل غرفة العمليات او مكاتب الاجهزة المختصة بالدول .
فقد استطاعت الدول العريقة المستقرة من عزل الجهد الاستخباري والأمني والعسكر بعيدا عن الصراع السياسي والحزبي وتبادل السلطة ووضعت لها القوانين والمقررات , لذا ترى ان الاستخبارات تعمل وتقوم بواجبها ولايضيرها ان يأتي رئيس ويذهب آخر اويأتي حزب ويفشل آخر .
وكذا فاننا نرى في الديمقراطيات المحترفة ان من حق الحزب الحاكم أن يأتي بالمنصب الرئيسي (كالوزير مثلا ) في كل الدوائر وعلى رأسها الوزارات الامنية .
ولكن يأتي الوزير أيضا لوحده بلا بلطجية الحزب و يستقر في موقعه مع واجبات ومهام واضحة بلا زيادة او نقصان , ويبقى كادر الوزارة المتخصص في مكانه ويتغير حسب القوانين الجارية بلا تدخل من الوزير ويتخذ القرارات التي فوضها له القانون اي السلطة والمرجعية للقانون .
فعندما توضع القوانين والضوابط تضعف الحاجة الى الولاء الحزبي وينآى المسؤول الاستخباري بنفسه عن الولاءات الجانبية لانه لايحتاجها
ومن هنا فاننا بأمسِّ الحاجة إلى قوانين تنظم عمل الاجهزة الاستخبارية وتقسم الواجبات وتقر هيكل تنظيمي لكل جهاز حسب أهدافه وواجباته وتمنع من التعيينات الحزبية وتنظم آليات تدخل الحاكم ومستواه في الاجهزة , فالدولة تحمي الاستخبارات من السلطة وتحمي الشعب من تجاوز الاستخبارات وترسم الصلاحيات بشكل واضح.
=============
احزاب بلا قوانين
=============
من أغرب الحالات في الأحزاب العراقية انها تدعي التوجه الديموقراطي وهي دكتاتورية في داخلها ,وزعاماتها تبقى حتى الموت وتورث ,الأمر الذي كنا نعيبه على صدام.
ان خلو الدولة من ضوابط قانون الاحزاب يجعل حركة اموال الاحزاب وارتباطاتها الخارجية هلامية غير محددة فاحزابنا تجذرت في الخارج , ولها ارتباطات , البعض منها غير واضح كما ان لدينا قوى سياسية لها قوات عسكرية , ولدينا في ذات الوقت ميليشيات لها لاحقاً اذرع سياسية , ثم هنالك نقص تشريعي لايحدد لنا مدى انطباق الخيانة العظمى التي يتم تغليفها لدينا تحت مختلف المسميات , مما يعيق العمل الاستخباري
ففي الحاله السليمة تكون الأحزاب ضمن إطار القانون والتشريعات وشخوصها معروفون وحساباتها ومكاتبها ورجالها وأهداف الحزب وأنصاره وبرامجه معلنة ومعروفة .
فلو كانت لدينا استخبارات ناجحة لسكت أصحاب الأجندات السياسية لأن كل واحد منهم سوف يشاهد ملفه أمام عينه وسرقاته وتخابره وتآمره على العراق , ولو كانت لدينا استخبارات ناجحة لقدمنا لكل زعيم سياسي فساد جماعته بالوثائق ولسكت وبهت , بل لحصلت حالة من التعاون والتكاتف بين أنصار الاحزاب وبين الاستخبارات لرفد الاستخبارات بالمعلومات.
ان الأحزاب الوطنية السليمة تقوم بدور إيجابي للدفاع عن أجهزة الأمن والاستخبارات داخل البلد , اما التي تسعى لغير ذلك فهي إما مبرمجة من الأجنبي او متجاوزة على المال العام .
ان تشكيل الكيانات والأحزاب لايمكن ان يكون بلا ضوابط ففي بعض الدول يجب ان يسجل الحزب مالايقل عن عشرة الاف من انصاره مثبتين بشكل رسمي وليس بينهم شخص أمني او عسكري او استخباري.
ويحق للعسكري ان يصوت إلى أي حزب سياسي يرغب به ولكن الانتماء محرم.
ان على الدولة ان تقنن عمل الاحزاب وتضعه في اطار قانوني سليم بعيداً عن الاستثناء والمراوغه وتبعد القوات المسلحة عن الحزبية والتحزب والصراع السياسي وتشدد العقوبات في جوانب الميول والعمل الحزبي داخل الجيش والامن بشكل قطعي .
=========
الخلاصة
=========
العمل الاستخباري عمل سري تابع للدولة وليس للحكومة , بمعنى انه لايتزعزع مع كل تغيير وزاري او حكومي , كما ان الدوائر الاستخبارية هي خزائن لاسرار الدولة ولايمكن ان يتمكن احد تحت يافطة السلطة او الحزب الحاكم من ان يخترق الخزائن ولا ان يتحكم بها .
وهذا الامر يقودنا الى ضرورة وجود معايير صارمة في اختيار عناصر الاجهزة الاستخباري من رؤسائها الى منظفي المكاتب , ولايمكن ان تخضع التعيينات الى الاهواء الحزبية لانها ستنتج لنا مدراء هم مضمدون او اطباء او صحفيون لاعلاقة لهم بالعمل الاستخباري ولاولاء لهم سوى لاحزابهم ومافياتها , مع فائق احترامنا لعمل المضمد او الطبيب او الصحفي , والله الموفق .
مقالات اخرى للكاتب