لو أراد أي منا العودة القهقريا إلى سنيين مضت وحسب طول عمره الذي به حباه الله، وتمعن بالضلال الجميلة في لوحة لطيفة أسمها الحياة العراقية، فلابد أن يلاحظ من بين هذه الضلال أثراً أسمه المسيحيين، بنظافتهم، ووداعتهم، وبساطتهم، ومسالمتهم، وكان حضورهم بارز في مناطق البتاوين، والسنك، وأبو نؤاس، والدورة، وبغداد الجديدة، وكمب سارة وغيرها من المناطق، وكذلك الحال في مدن اخرى من مدن كركوك، والموصل، والبصرة، والحبانية وقصبات عديدة أتذكر بعضها ولا يحضرني أسماء الباقية لكثرتها، ولا أحد ينكر أنهم كانوا زهرة ساطعة اعتنت بها ريشة رسام ماهر لتزيد من رونق العراق وجماله .
وبالرغم من تعرضهم للقتل والإبادة أحياناً وفي فترات تاريخية مختلفة، جرى بعضها بداية القرن التاسع عشر ولا أريد التطرق للمجازر التي أصابتهم في قرون سالفة لأن ذلك يحتاج إلى سرد طويل، إلا أن فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية شهدت هدوءاً نسيبا واستقراراً في المناطق التي أشرنا أليها وتعايشاً مع المسلمين وسكان المدن التي يتواجدون فيها، وكثيراً ما قصدنا كنائس بغداد في الستينات والسبعينات، للإطلاع الشعائر الدينية التي يمارسها المسيحيون من دون أن نشعر بامتعاض أحد على تلك الزيارات .
ظل الحال على ما هو عليه حتى جاء شباط الاسود لتبدأ الجريمة من وزارة الدفاع، لينتشر شرها في كل العراق والمسيحيين جزءاً منه، الذين اضطروا لمغادرة العراق بالسر والعلن وحسب الظروف، ولكن مع هذا فان الهجرة لم تكن ذات تأثير واضح على وجودهم، حتى عام 2003 حيث اتخذت الهجرة طابع جماعي سهل منها سياسات مرسومة للدول المستقبلة للمهاجرين وخاصة المسيحيين، حتى ظهر الفراغ الذي تركوه ظاهراً للعيان، يشعر به كل من تسنح له الفرصة بالمرور في مناطق سكناهم القديمة، وعلى امتداد الساحة العراقية، حيث تحول كل شيء إلى أطلال، لا يعرف ماضيها إلا الذين عاشوها في سنيين منصرمة .
لقد كانت عشرتهم والتجاور معهم ممتع ومريح، حتى أن لعبد الكريم قاسم كان هناك جيران مسيحيين في شارع الزعيم المقابل لفندق الميرديان الحالي والذي أستأجر فيه الزعيم بيتا عائداً للأوقاف، فكان المرحوم يلاطفهم عند دخوله وخروجه من البيت، وخاصة طفلة صغيره لهم ولم يشعروا بوجود أنفة اتجاههم من رأس السلطة أو الدرجات التي تليه في ذلك العهد .
يعاني ما تبقى من المسيحيون اليوم من إرهاب القوى التكفيرية المتطرفة، وكذلك الحال بالنسبة للايزيديين، والشبك، وغيرهم من الأقليات حيث مارس الدواعش ضدهم، شتى صنوف الاضطهاد، والتعدي على أعراضهم، ومقتنياتهم، وأملاكهم، فكان ذلك سبباً لهجرتهم المتزايدة ليصبح جانباً من اللوحة البراقة التي تحدثنا عنها خاويا من أطيافا مهمة، تؤطرها بإطار جميل ليلفها الظلام القاتم والضباب الكئيب .
كل هذا نشعر به اليوم بعد أن خلت الساحة من الطقوس التي كانت تمثل جزءاً مهما من تراث العراق في نهاية كل سنه، فتدخل من خلالها البهجة في النفوس لتمتص، ما يمكن من تداعيات الزمن، وقلة الضمير، الذي هو من سمة من لا ضمير لهم، فحولوا أيامنا الى مجرد تراكم من الشجون والأحزان، في وقت يعيش العالم أيام التطور وينعمون بالحبور وسمو الاخلاق والثقافة، حيث لم يبقى لنا من ذلك سوى الكلام الخالي من أي معنى، فيا ليت ايام التنوع العراقي تعود لنا ونعود أليها، ليكون لنا في بارك السعدون وعكد النصارى لحظات مودة وابتسامه ومرح .
مقالات اخرى للكاتب