عند تسليط الأضواء على صفحات من تاريخ الأمم والشعوب الماضية والحاضرة التي نالت قسطاً من الحياة الكريمة والازدهار المجتمعي والتقدم الحضاري نجد هنالك مشتركات في معظمها رغم تباعد الزمان والمكان فيما بينها وإختلاف الظروف المحيطة بكل منها ، وأهم تلك المشتركات هي الايمان بعقيدة والإخلاص للأمة والأمانة في توزيع الثروات والدفاع عن الأرض ، وهذه المتبنيات تؤدي في نتائجها الى تقدم وإزدهار تلك الشعوب والأمم مختزلة في ذلك الزمن تبعاً لصدق تمسكها وثباتها على تلك القيم . وبعكس ذلك تبقى أمم وشعوب في دائرة الصراعات والتخلف وسوء الحياة مادامت لا تمتلك من هذه المقومات المعنوية شيئاً وإن كانت تمتلك مقومات مادية طبيعية وبشرية هائلة بل ربما تصبح هذه الكثرة وبالاً ونقمة بدلاً من أن تكون نعمة ورفاهية .
وتبقى تجربة المدينة المنورة أبان الصدر الأول للإسلام فريدة من نوعها وفي كثير من جوانبها الحياتية الملموسة ، فقد دون لنا التاريخ أن هذه المدينة كان سكانها في تناحر وتحارب وتقاتل مستمر بين أكبر قبيلتين يقطنان فيها وهما الآوس والخزرج على مدى سنين وأجيال إضافة الى وجود اليهود والنصارى ومكائدهم فيها ، وبعد أن أنعم الله على ثلة منهم بالرسالة المحمدية الشريفة على صاحبها وآله أتم التحية والسلام ونزوحه اليهم بعد أن ضاقت به وبأتباعه السبل وهي تعيش بتلك الحالة المتصارعة تحولت بشكل عجيب فإيمان أهل المدينة بالرسالة المحمدية حولت الصراع فيما بينهم الى ترسيخ أواصر المحبة والتآخي والتآلف بقياسات منقطعة النظير في حسابات البشر حتى أصبح المجتمع متماسكاً بعضه مع البعض الآخر ويشعر كل منهم بأنه في مجتمع يبادله المودة والمحبة والتعاطف وكانوا يلقبون أنفسهم بالأنصار ، ووصل الحال بعد خمسة أشهر فقط وصاحب الرسالة بين أظهرهم الى موآخاة بينهم وبين المهاجرين اليهم من مكة المكرمة فكانوا يقتسمون أموالهم وبيوتهم وحتى زوجاتهم مع المهاجرين وهذا يعتبر بحد ذاته إنجازاً عظيماً إنسلخت من خلاله الانانية وحب الذات والهيمنة وتنامت بدلها روح التضحية والفداء والاباء ، ثم وضعت وثيقة تعامل وتحديد الحقوق والواجبات ومعاهدة عيش مشترك بين المسلمين فيما بينهم وأخرى بينهم وبين اليهود والنصارى وهذه لبنات بناء المجتمع المتماسك القوي ذي الهدف الواحد والمصير الواحد ومن هنا تم الشروع بتأسيس جيش قوي عقائدي قادر على حماية المدينة والدفاع عنها متزامناً مع هيكلية إدارية تتناسب وحياة تلك الحقبة الزمنية . ورغم التحديات والتهديدات والمكائد التي أحاطت تلك الدولة الفتية إلا أن شعب المدينة المنورة واجهتها بكل إيمان وإصرار وتحدي متسلحة بالإخلاص للعقيدة التي يحملونها بين جنباتهم وتستلهم مفاهيم الأمانة من رمز عزتها ورفعتها ( الصادق الأمين ) ومع أنها لم تكن بكامل إستعداداتها القتالية والتعبوية إلا أنها واجهت الاعداء وخاضت أعنف الحروب ضدهم ولمرات عديدة وكانت نتائجها تثلج قلوبهم وخلال 8 سنوات فقط تحولت الأحداث من مدافعين عن مدينتهم الى مبادرين لفتح عظيم تكلل بالنصر المؤزر ، وبعد إنقضاء 10 سنوات أصبحت هذه المدينة مركزاً لأكبر دولة في تلك الحقبة من التاريخ . ومن هنا يتبين بما لايقبل الشك أن الايمان بعقيدة والإخلاص لها والأمانة عليها والدفاع عنها كفيل بأن يجعل الثلة المؤمنة بها ترتقي في إنسانيتها نحو المجد والعيش الكريم
مقالات اخرى للكاتب