العراق تايمز: كتب رشيد السراي
سلسلة حلقات نقوم من خلالها بقراءة في الخطاب الفاطمي السنوي الحادي عشر الذي ألقاه سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله ) على جموع المعزّين بذكرى استشهاد الصديقة الزهراء (عليها السلام) يوم 3/ج2/1437 المصادف 13/3/2016 في ساحة ثورة العشرين في مدينة النجف الأشرف، ونبدأ بالحلقة الأولى منه وهي بعنوان " تكريم الإنسان كأصل للقوانين والتشريعات"، فنقول:جاء في مقدمة الخطاب : " (ولقد كرمنا بني آدم) (الإسراء:70)الكرامة المطلقة للإنسان، تأكيد بعد تأكيد: باللام و (قد) وصيغة التفعيل لهذه الحقيقة الإلهية وهي الكرامة المطلقة للإنسان التي تعتبر من أهم الأصول التي تستند إليها القوانين والتشريعات".
وجاء في الخطاب أيضاً: "روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (يقول الله تعالى: لم أخلقك لأربح عليك، إنما خلقتك لتربح علي، فاتخذني بدلاً من كل شيء، فإني ناصر لك من كل شيء).
إن بيان القرآن لهذه الحقيقة يستهدف:
1-تأسيس هذه القاعدة الأساسية التي تبنى عليها كل القوانين والأنظمة والتشريعات حتى الدين نفسه وهي كرامة الإنسان التي هي فوق كل شيء وأي قانون أو تشريع يتعارض مع هذا الأصل أو يتنافى مع حقوق الإنسان التي وهبها الله تعالى لبني آدم يجب أن يُلغى أو يُعدَّل".انتهى الاقتباس. فما هي الكرامة المطلقة للإنسان؟ وكيف تعتبر من أهم الأصول التي تستند إليها القوانين والتشريعات؟الكرامة المطلقة للإنسان انطلاقاً من نص الآية القرآنية التي بدأ بها الشيخ اليعقوبي كلامه : (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً )(الإسراء:70)، يمكن فهمها بما يلي:1-الخلق بأحسن تقويم.
2-توفير الأفضل له.
3-تسخير المخلوقات الأخرى له.
4-العقل.
5-التكليف أو الاستخلاف وهو متفرع على ما ذكر.فكرامة الإنسان مطلقة بهذه المعاني وغيرها من المعاني والمظاهر، وهي هبة ومنحة إلهية لا يحق لأحد تجاوزها، فكرامة الإنسان وفقاً للرؤية الدينية هذه هي تفضيله واستخلافه.
أما بخصوص السؤال الثاني " وكيف تعتبر كرامة الإنسان من أهم الأصول التي تستند إليها القوانين والتشريعات؟" فيتطلب الأمر استعراضاً تاريخياً مختصراً للمسألة:فكما قلنا سابقاً فإن من أهم أصول التشريعات في الدين الإسلامي بل وكل الأديان السماوية كرامة الإنسان، أما في التشريعات الوضعية فإن الحديث عن الكرامة (Dignity) والمشتقة من الجذر اللاتيني (dignitas) والذي يعني الجدارة، والتي بدأت بالظهور في بداية القرن الثالث عشر الميلادي، وعُرفت من خلال ما ينقضها أو يهددها كالإذلال والعبودية والسخرة والاستغلال في العمل وغيرها يجب أن يتناول جانبين الجانب الفلسفي والجانب القانوني:
ففلسفياً كان الفيلسوف الإيطالي بيكو ديلا ميراندولا في القرن الخامس عشر أول من تحدث عن كرامة الإنسان في كتابه "خطبة في كرامة الإنسان"، ثم جاءت كتابات عيمانويل كانت وكتابات آرثر شوبنهاور الذي عرف الكرامة بأنها "رأي الآخرين حول قيمتنا"، وكتابات آخرين وصولاً إلى فلاسفة القرن العشرين كمورتيمر أدلر جيروم وآلان غيورث وغيرهم.
أما من الناحية القانونية فعلى الرغم من عدم الاتفاق على تعريف محدد لكرامة الإنسان إلا أنها مثلت أصلاً من أهم أصول القوانين والتشريعات ومن أمثلة ذلك الإعلان العالمي لحقوق الإنسان حيث جاء في المادة (1) منه :"يولد جميع الناس أحرارا ومتساوين في الكرامة والحقوق. وهم قد وهبوا العقل والوجدان وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضا بروح الإخاء".
فيما أكدت المادة (1) من ميثاق الحقوق الأساسية للاتحاد الأوربي على عدم انتهاك كرامة الإنسان. أما الدستور الألماني (القانون الأساسي الألماني) فقد جاء في الفقرة (1) من المادة (1) منه ما يلي : "يجب أن لا تنتهك كرامة الإنسان وأن تكون احترامها وحمياتها من واجبات سلطة الدولة"، ومما يدلل على أهمية الكرامة في الدستور الألماني إن ذكرها جاء قبل ذكر حق الحياة !وفي الدستور الاتحادي السويسري نصت المادة (7) منه على إن : "كرامة الإنسان يجب احترامها وحمايتها".
كما اعتبرت كرامة الإنسان هي الاساس في التشريعات المتعلقة بالصحة والخدمات الطبية في الكثير من البلدان كالسويد والولايات المتحدة الامريكية وفرنسا، واعتبرت ثابتاً أساسياً في مجال العلوم خاصة فيما يتعلق منها بالطب والوارثة وأبحاث الأجنة والاستنساخ، وصدرت تعليمات بشأن ذلك في دول كثيرة منها كندا والدنمارك والبرتغال وغيرها.
وقد وردت الإشارة في إعلان هلسنكي الذي أصدرته الجمعية الطبية العالمية في المادة (11) إلى الكرامة واعتبارها من واجبات الأطباء المشاركين في الأبحاث الطبية.كما أصدر مجلس أوربا-وهو منظمة دولية لتعزيز حقوق الإنسان والديمقراطية في أوربا والعالم- في العام 1997 اتفاقية "حماية حقوق الإنسان وكرامته فيما يتعلق بتطبيق البيولوجيا والطب".وأصدرت الأمم المتحدة في العام 1998 إعلان اليونسكو بشأن الجين البشري وحقوق الإنسان، حيث جاء في المادة (2) منه على سبيل المثال : "كل شخص لديه الحق في احترام كرامته".كما ويتم اعتبار كرامة الإنسان كأساس في تدريس القانون الدولي.هذه الأمثلة أعلاه تدلل بوضوح على ما تمثله كرامة الإنسان من أهمية كأصل وقاعدة في التشريعات والقوانين.