التجاذب السياسي حول تشكيلة الحكومة المحلية في إقليم كردستان العراق استمر ثمانية أشهر ولا يزال غير محسوم. تجاذب حول الحصص الوزارية و"حق" كل حزب فائز في الانتخابات. تماما كما حدث عند تشكيل الحكومة الفيدرالية الحالية قبل حوالي أربع سنوات، وكما هو متوقع الحدوث بعد الانتخابات البرلمانية المقبلة وبدء مخاض التشكيل الحكومي.
المشكلة هي ذات المشكلة. كانت في الحكومة الفيدرالية وانتقلت الآن الى الاقليم بعدما كان الامر محسوما فيه باتفاق بين الحزبين المتفردين بالحكم المحلي والمتقاسمين لموارده المالية بين منطقتي نفوذهما. لكن الحراك السياسي الذي بدأ يتنامي واتساع مساحة نفوذ حركة التغيير الخارجة من رحم حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، أدخل الساحة السياسية الكردية العراقية في مرحلة جديدة لا تصمد أمامها اتفاقات الحزبين السابقة وموقفهما الرافض للشريك الجديد المتنامي.
لا يمكن الاحتجاج في هذا الرفض بالشرعية الثورية وكون الحزبين تصديا للنضال ضد القمع الذي مارسته الانظمة السابقة، وبالتالي حقهما في التفرد بالحكم محاصصة، فالشريك السياسي المنافس هو أيضا جزء من منظومة النضال السابق باعتباره انسلاخا من أحد الحزبين وبالتالي فانه يتمتع بذات الشرعية النضالية التي يستند اليها الحزبان الآخران، فقيادة التغيير هي جزء من قيادة الاتحاد الوطني الكردستاني التاريخية، ويميّزها ما ترفعه من شعارات إصلاحية مدعومة بنزاهة مشهودة لها، على الاقل ماليا.
الانتخابات الاخيرة لبرلمان كردستان سجلت زحفا لحركة التغيير (كَوران) على مقاعد الحزب الام، الاتحاد الوطني، في البرلمان ما جعلها الثاني في الترتيب، بعد الحزب الديمقراطي الكردستاني الممسك بمفاصل حكومة الاقليم منذ سنوات. هذا التغيّر في الأحجام وصعود قوى على حساب قوى أخرى، يشير الى حيوية سياسية حقيقية تشهدها ساحة الاقليم وهو ما يشكل قاعدة لتنامي ديمقراطية حقيقية. لكن هذه الحيوية وهذه الديمقراطية المنشودة تواجه عقبة الثقافة السياسية لدى الاحزاب القائمة، ليس في الاقليم فحسب بل في عموم الساحة العراقية. هي ثقافة حتمية المشاركة في الحكم لجميع الفصائل أي المحاصصة ولكن بأسماء تلميعية كحكومة الوحدة الوطنية تارة والشراكة الوطنية تارة أخرى، وهي تجربة أثبتت فشلها ليس خلال العقد العراقي الماضي، وإنما في أغلب الدول التي اعتمدت النظام التوافقي بحجة إنصاف جميع المكونات، فقد حوّلت التوافقية كل من هذه الدول الى كانتونات مستقلة مجموعة في عقد زواج قسري مهدد بالطلاق عند كل جولة خلاف.
وفي ظل الانظمة "التوافقية" يصبح تحصيل المكاسب وتحقيق المغانم هو الهدف: يبدأ بالمكاسب للطائفة ثم يتحول الى الحزب ليصل الى المكاسب الشخصية التي تجعل من التمسك بالامتيازات والمواقع الرسمية التي تؤمنها أو تحميها، هدفا يستحق بذل "كل" الجهود. هكذا هو الوضع في عموم العراق والإقليم ليس إستثناءً، الا في موضوع غياب التنوع الاثني او المذهبي، ما جعل التحاصص يبدأ من نقطة الاحزاب ليتسع الى العوائل والاشخاص.
هذه المحاصصة، والمكاسب المتأتية منها والحرص عليها، تجعل من المشاركة في الحكم هدفا لاغلب الاحزاب، الامر الذي يضعف من فرص قيام ديمقراطية حقيقية مستندة الى وجود أغلبية سياسية في الحكم، وأقلية معارضة في البرلمان ترصد الاداء وتقوّمه وتعمل من أجل كسب الجمهور استعدادا لجولة جديدة من الانتخابات. لا يعني هذا ان فرص قيام حكومة الاغلبية معدومة، بل انها باتت خيارا ملحا يحتاج الى توفير ظروف تحقيقه.
برأيي المتواضع ان الاتحاد الوطني الكردستاني أمامه فرصة تاريخية: أن يقبل بالبقاء خارج الحكومة ويلعب دور المعارضة في البرلمان الكردستاني. هكذا سيثبت أنه يريد بناء بلد وليس بناء مصالح، وسيقدم درسا لبغداد في إمكانية الركون الى حكومة أغلبية سياسية تشرك كل المكونات وليس كل الاحزاب. علّنا نقطع شوطا باتجاه ديمقراطية حقيقية بدل خدعة التوافقية.
مقالات اخرى للكاتب