قطع المالكي آلاف الكيلومترات ليستقر في الهند، ويتحدث من هناك معلناً أن خبرة الهند في الديمقراطية لاقت استحساناً، وأن هناك الكثير من الممكن للعراق أن يتعلمه من الخبرة الهندية.
قالها رئيس مجلس الوزراء في الهند، فيما يقول جماعته وحزبه في العراق أشياءً أخرى، لكن دعنا نصدق تماما أن المالكي يريد ان يتعلم من التجربة الهندية، وننسى أنه سعى الى تكريس الانقسام في البلاد، وعزز بين مؤيديه معاني كثيرة عن إقصاء الآخرين.
دعك من ذلك وأنسى أن أنصار السيد المالكي، لا يزالون مصرين على تطهير البلاد من الخصوم، وسأفترض أن المالكي بات الآن يملك وجهة نظر وقناعة مغايرة تماما عن مقربيه المتحفزين ضد شركائهم في الوطن، ولكن لماذا يقول رئيس مجلس الوزراء، في الخارج ما يفترض انه يطبقه في الداخل، ولماذا يترك الجرح العراقي ينزف، ثم نراه أمام الفضائيات يتحرك مدعياً أنه يحاول مداواته؟
وقبل أن أضع مقارنات بين الديمقراطية الهندية الراسخة، وبين ديمقراطيتنا العرجاء، أود أولا أن أشير إلى خبر صغير قد لا يلتفت إليه السيد المالكي، فقبل اشهر قام رئيس وزراء الهند، بتعيين المسلم آصف إبراهيم مديرا لجهاز المخابرات في بلاد ذات أغلبية هندوسية، برغم أن أكبر خطر يهدد الهند يأتيها من المتطرفين الإسلاميين.. إنه حدث على السيد المالكي ان يتأمله جيدا، لأنها خطوة مهمة لتمكين الآخرين من المشاركة في الحكم، وما دمنا في حديث الاستفادة من تجربة الهند، أسال السيد المالكي، هل يسمح بتعيين "سني" على رأس جهاز أمني في العراق.. لأنني لا أريد انج أذهب بعيدا وأسال: هل يمكن تعيين مسيحي أو إيزيدي أو صابئي رئيسا للمخابرات في العراق؟ وسأبسط الامر اكثر واسأل هل يسمح المالكي بتعيين مديرا لمكتبه من خارج اقاربه ومعارفه؟
في "رسائل إلى ابنتي" كتب نهرو إلى ابنته أنديرا من سجنه البريطاني في الثلاثينات إنه سوف يُنشئ حزب مهمته النضال ومن أجل الحرية، والحفاظ على النظام الديموقراطي والمرجعية البرلمانية واحترام الحريات.. ولا تزال عائلة نهرو، ترث الزعامة السياسية في الهند، تربح حينا وتخسر أحيانا كثيرة، لكنها لا تشتم الآخرين، ولا تسخر من الخصوم.
لقد عانينا في العراق عشر سنوات من الطائفية، وهو ما أدى إلى تقسيم المجتمع بصورة كبيرة، بحيث أصبحت شرائح واسعة لا تثق في بعضها البعض، وحيث ينمي الساسة نظريات المؤامرة، ولهذا أتمنى على المالكي قبل ان يتحدث عن الديمقراطية ان يتوقف للحظة ويسأل نفسه: " كيف تمكنت الهند،، أن تُنحي ثقافتها الهندوسية جانبا وتصل إلى مجتمع متنوع الثقافات والرؤى؟
أقرأ في كتاب غاندي " قصة تجاربي مع الحقيقة " كلمات المهاتما عن التسامح " أحسست أن تسامحي ينقل شيئين للذين يظلمونني ويسيئون معاملتي، أولا: مدى قدرتي على تقبل الآخر، وثانياً: قناعتي أن قوتهم ستسقط يوما ما ".
لو أعدنا قراءة التاريخ مرة أخرى، لوجدنا أن المتسامح غالباً هو الذي يفوز، وأن الحوار هو الذي ينتصرغالباً على يـد رجال كلماتهم اقوى من المدافع، أفكر طبعاً في غاندي ونهرو، ومانديلا ولي كوان وسليفا ومهاتير محمد.
الذين هزموا الظلم وكسروا خوف الناس وأعلوا كرامة شعوبهم، لم يكونوا قادة معارك المصير، ولا رافعي لافتات "ما ننطيها" كانوا رجالا يحبون شعوبهم لا مقربيهم، ويعملون لأوطانهم لا لأحزابهم، لم يقطع غاندي صلة شعبه بالماضي ولم يجتث المختلفين معه في الرأي، بل أنشأ دولة تعرف معنى الحرية والاختلاف بالرأي، وأرغم العالم، على تقديره واحترامه، من دون أن يرفع العصا الغليظة في وجه أحد، ومن دون أن يشتم أحداً، ومن دون أن يتهم الآخرين بأنهم خونة ومتآمرون وفقاعات.
حين سألت أنديرا غاندي عن الأزمة مع السيخ قالت: إنها ازمه مع المتشددين فقط، وليس مع طائفة بأكملها، وتضيف بأنها رفضت طلب بعض أعضاء الحكومة بتغيير، حرسها الشخصي المكون من الضباط السيخ معتبرة أنه يجب أن لا يؤخذ الأبرياء بجريرة المذنبين.
أنديرا أيقونة التسامح والغفران في الهند البلد، استطاعت بطيبتها وتسامحها وبساطتها أن تطوي صفحات من العداء الطائفي بين مكونات الهند وان تفتح طريقا لهند جديدة أصبحت اليوم بمصاف الدول العظمى، طريق المستقبل للمواطنين المتعددي الأعراق والأديان، وكانت مواقفها رمزاً لهذا المستقبل، دفعت ثمنه حياتها حين رفضت ان تغير حرسها الخاص من أشخاص مقربين معتبرة ان كل أبناء الهند هم أبناؤها وان اختلفوا معها في الدين أو المعتقد أو الرؤى السياسية.
أتمنى أن يقرأ المالكي رسائل نهرو إلى ابنته أنديرا، ليعرف الفرق بين حاكم أخرق يضحي بشعبه من اجل السلطة، وبين حكام يعتبرون السلطة مثل حجر ثقيل جاثم على القلب
مقالات اخرى للكاتب