في اليوم الأول لفوزها بمنصب المستشار عام 2010 ، خرجت صحيفة الغارديان اللندنية بمانشيت مثير : "المانيا تستعين بامرأة بدينة".. وتساءلت الصحيفة كيف لبلاد بسمارك وغوته وبتهوفن وفيلي برانت وهلمت كول أن تضع مصيرها بيــد امرأة بسيطة المظهر.. لا تاريخ سياسي.. لا اناقة.. والأهم لا شيء من ملامح المرأة الحديدية مارغريت تاتشر.. محامية لم تحقق نجاحا في ساحات المحاكم، عاشت سنواتها الاولى حياة غاية في البساطة.. الغارديان التي سخرت من المرأة البدينة عادت لتعلق على الانتخابات الالمانية الاخيرة: "لا تكف هذه المرأة الحديدية عن إدهاش العالم.. فقد استطاعت ان تضع بلادها على قائمة البلدان الأكثر دخلاً.. ووسط الازمة الاقتصادية التي ضربت العالم، ظلت المانيا بمنأى من العواصف آمنة، هادئة تقدم المال والنصيحة للاتحاد الأوربي".
وصف كثير من السياسيين الألمان ميركل بالداهية، فهي تستغل وجهها الطفولي وابتسامتها اللطيفة والحنكة التي تعلمتها من والدها رجل الدين للوصول إلى أهدافها، ولم تتأخر يوما عن طلب المساعدة من سياسيين خصوم، أمثال هلموت كول الذي طالما شوهدت تتسلل الى بيته ليلا لتسأل الرجل العجوز: ما الحل؟ وحين يفاجئها احد الصحفيين بسؤال: ماذا تريد من شخص مني بهزيمة سياسية، تقول: يحتاج المرء إلى الانصات لكي يتمكن من الاستماع الى من هم اكثر ذكاء منه.
بالامس خرجت الفائزة في انتخابات المانيا، رافضة ان تشكل حكومة اغلبية سياسية كما يتمنى العديد من ساستنا، فهي تؤمن بان المانيا تحتاج الى خبرات كل أبنائها: "لا نحتاج الى حكومة بسلطات مطلقة.. ما يحتاجه العالم المانيا مستقرة ومزدهرة".
يعيش صاحب شعار السلطة المطلقة في عالم من الوهم ينسجه له المقربون. صدَّق مبارك التظاهرات التي انطلقت للهتاف باسمه، فيما ظل القذافي حتى اللحظة الاخيرة من حياته يردد "الشعب يحبني"، فيما يكتب دكتاتور تشيلي بينوشيه في وصيته "سأموت وأنا فخور بما حققته من انجازات لهذا الشعب" وكانت أبرز انجازات الجنرال هي قتل معارضيه وتشريدهم وتسليم البلاد الى مجموعة مقربه عاثت فساداً وإجراماً.. في خريف البطريرك يكتب ماركيز "يعيش الدكتاتور في عالم من القطيعة والأحكام المطلقة التي لا تفسح مجالا للاختلاف" أما مريدوه ومقربوه فنراهم أمام شاشات الفضائيات يبثون الفرقة ويعيدون انتاج الاستبداد. وتستبد بهم الحماسة احيانا بان يطالبوا باستنساخ هذا القائد كما في الدعوة المباركة التي تبناها النائب عباس البياتي حين طالب باستنساخ المالكي، ولم تكن هذه اللفتة العبقرية هي الأولى التي يتحفنا بها المقربون فقد سبق أن وصف النائب مهدي الخفاجي، رئيس الوزراء بأنه "علم دار العراق" الذي سيقوم بتصفية جميع المتآمرين.. وفي وقت قريب خرجت علينا رئيسة لجنة الثقافة والإعلام في مجلس كربلاء سليمة سلطان، لتقول ان رئيس الوزراء من المصلحين في الارض، لتضفي على مسؤول حكومي هالة من التبجيل والقداسة.
في ظل هكذا مقربين وساسة تصبح السياسة في العراق كأنها أوراق متناثرة من كتاب "كفاحي" لهتلر كل واحد يريد ان يصبح جزءاً من نظام تسلطي، نظام لا مكان للبسطاء فيه، إلا بالشعارات والخطب وراء الميكرفونات.. فلا واجبات ولا مسؤوليات تجاه هذا الشعب، بل "منـَّـة" اذا تنازل المسؤول وتمشى وسط حماياته في احد الشوارع، و"منـَّة" اذا تواضع وتحدث مع الناس عبر سياج من الحمايات المدججين بالسلاح، و"منـَّة" اذا تكرَّم وحضر اجتماع للبرلمان ليناقش قانوناً يهم الملايين، و"منـَّة" اذا وافق ان يصافح المختلفين معه في الرأي!
أنظر إلى المرأة البدينة وهي تتحدث بإصرار عن مشاركة الجميع في الحكم، وأنظر إلى وجه المالكي، وهو ينذر الجميع "ايضاً" بالويل والثبور وعظائم الامور، فأجده يفتقد الرؤية والقدرة على إلهام الناس.. فارفع يدي الى الله داعياً: اللهم أبعد عنا الوجوه المكفهرة، التي أوصلت مهنة السياسة عندنا إلى الدرك الأسفل