كنت أقرأ منذ أيام فى كتاب على الغرائب والحقائق المبهرة ، فقرأت فقرة عن شخص يدعى "ايشام جرين هاريس" الذى كان حاكما لولاية تينيسى سنة 1861م ، وكان قمة فى العفة والنزاهة ، وانحاز الى جانب الولايات الاحدى عشرة التى انفصلت عن الولايات المتحدة الامريكية ، الامر الذى جعل الجيوش الاتحادية تطرده من منصبه .
فتطوع كجندى بسيط واشترك فى العديد من المعارك طوال أربع سنوات ، وبعد الاستسلام انتقل الى المكسيك وانجلترا ، لكنه ما لبث ان عاد الى ولايته مرة أخرى ، وطوال السنوات التى قضاها فى الحرب ،والمنفى ، كان يحمل معه باستمرار مبلغ 650 الف دولار نقداً ، وهى الايرادات النقدية الخاصة بصندوق المدرسة العامة فى ولاية تينيسى ، حيث كان مؤتمناً عليها.
كيف لهذا الرجل أن يحافظ على هذا المبلغ طوال هذه السنوات ، بالرغم من أنه كان يعانى فى اوقات كثيرة العوز والفقر ؟! ، وكيف يصر على العودة مرة أخرة بعد منفاه الى الولاية ليرد المبلغ كاملاً غير منقوصاً الى إدارة الولاية ؟! ، غندما قرأت قصة هذا الرجل تذكرت ما تم نشره منذ عدة أشهر عن رئيس الاروجواى " خوسيه موخيكا" ، والذى يوصف بأنه أفقر رئيس فى العالم ، وأكثرهم نزاهة وشفافية وتواضع .
فالرجل يملك منزل متواضع وسيارة فولكسفاجن قديمة لا تتجاوز قيمتها ألفى دولار ولا يملك حسابات مصرفية وليس عليه أية ديون و يستمتع بحياته البسيطة جدا رغم كونه رئيساً ، ويتبرع بــ 90 % من راتبه للاعمال الخيرية مما يجعل راتبه المتواضع بالأساس هو أقل راتب لرئيس بين رؤساء العالم ، و أذكر انه قد كُتِبَت عن هذا الرجل العديد من المقالات فى صحفنا العربية وكان لى نصيب منها ، وبكل تأكيد كانت المقالات تنتهى بتساؤل من باب رثاء الحال .. عن إمكانية أن نجد فى يوم من الأيام مسؤول عربى مثل هؤلاء الأشخاص ! ، خاصة أن تاريخ الأجداد فى تاريخ الدولة الاسلامية حاقل بالكثير ممن فاقوا فى نزاهتهم و تواضعهم كلا من " هاريس و موخيكا " .
أنا شخصيا أشك فى أن يأتى هذا اليوم فى أيامنا الحالية ، لكن ربما يشهده الأحفاد ومن بعدهم .. ويؤكد ذلك رؤيتنا اليومية لرؤساء يقتلون شعوبهم ، ويعتقلون ويحرقون ويدمرون ، يقول "خوسيه موخيكا" : "ان أهم أمر في القيادة المثالية هو أن تبادر بالقيام بالفعل حتى يسهل على الآخرين تطبيقه" ، ولعل هذا ــ بالضبط ــ هو ما جعل من السهل علينا كشعوب عربية أن نتقبل الأفعال الفاسدة لرؤسائنا و نحذو حذوهم فى قتل بعضنا البعض ، وتقبل مشاهد الدماء والحرق والخراب ، بل وأحيانا التشجيع على المزيد منها و إعطاء المشروعية الشعبية لها !