هناك شكوك قليلة في عدم فوز جيب بوش بالرئاسة الأمريكية في العام القادم. حيث تشير دلائل عديدة في أمريكا إلى فوزه شبه المؤكد على من يرشحه الديمقراطيون الذي لابد أن يدفعوا ثمن أخطاء رئيس ديمقراطي لم يحافظ على مصالح حزبه وومستقبله السياسي.
ومن تحصيل الحاصل أن يطرد من وزارات الخارجية والدفاع والمخابرات أغلب الذين أدار بهم باراك أوباما المتردد الضعيف سياساته في الخارج والداخل معا.
وكما جرت العادة، فسوف يدخل إلى المواقع المهمة الحيوية العليا في الإدارة الجديدة مسؤولون جدد، مدنيين وعسكريين، أقل ترددا من أعوان أوباما وأكثر تعنتا وتطرفا وميلا إلى استخدام العصا الغليضة، ويخرج آخرون سايروا رئيسهم في سياسة البعد عن الشر، والتفرج على معاركه من بعيد، وظلوا، على امتداد رئاستين متتاليتين، يرون النار تلتهم حلفاءهم ومصالح بلادهم في سوريا ولبنان والعراق ومصر وليبيا واليمن وإيران وتركيا وأوكرانيا ولم يشيروا عليه بإطفائها على عجل، قبل أن تستفحل، ويصبح أمر إطفائها أقرب إلى المستحيل.
كما ظلوا يزينون له أوهام الحلول السياسية، وحجج الحوار، حتى وهم عارفون أن أي حوار بين الرحمن والشيطان، بين الرقبة والسكين، غير ممكن، وإن حدث فهو عقيم وبدون نتيجة، ويُخفون عنه حقيقة أن إهمال الحرائق ستكلف أمريكا وحلفاءها أفدح ثمنا من إطفائها.
ش
فهم، مثلا، أهملوا سوريا، وتراخوا في العراق. وهاهم يتباطأون في ليبيا واليمن ولبنان، ويغمضون عيونهم عن إيران وهم يرونها تتمدد وتنتشر وتتوسع يوما بعد يوم وتنشر الخراب والاقتتال في المنطقة. ودعموا نوري المالكي والمليشيات، من أول أيام الغزو الأمريكي الفاشل وإلى يوم خروجه، حتى وهم يرونه بفساده وطائفيته وسياساته الثأرية المتعصبة، وإجراءاته التهميشية والتهجيرية، يستثير حمية شرائح مهمة من الشعب العراقي، ويجعلها مضطرة للدفاع عن نفسها ضد ظلمه وعنجهيته، أو هكذا تظن، فتصبح حواضن فاعلة تعطي داعش والقاعدة مزيدا من القوة والصمود والاندفاع، واجتياح مساحات مهمة وحيوية من سوريا والعراق، والآن من ليبيا، ومن يدري ماذا ستفعل في الغد.
وليس معروفا ما إذا كانوا مقدرين أو غير مقدرين لحجم الشعور بالظلم والقهر والتهميش الذي زرعه في ملايين المواطنين السوريين والعراقيين واللبنانيين إرهاب الأسد وشبيحته والدعم المالكي الإيراني بالمال والسلاح والمقاتلين، وما يمكن أن يتفجر عنه من أرهاب مقابل يضع الأمن والاستقرار في المنطقة على حافة هاوية جهنمية بلا قرار ولا نهاية.
بعبارة أخرى إنهم لم يتولوا بأيديهم، وكانوا قادرين، مهمة اجتثاث العنف الحكومي السوري الإيراني من بدايته، ولم يسمحوا، في الوقت نفسه، لحلفائهم العرب والغربيين بالقيام بالمطلوب، نيابة عنهم، لوأد الفتنة ومنع النظام الإيراني الطائفي من تخريب أمن المنطقة وزعزعة استقرارها.
فحين هبت التظاهرات الشعبية السورية تطالب بالعدالة والحرية والكرامة، وظلت ستة أشهر تهتف (سلمية)، وحين أطلق بشار الأسد أول رصاصاته إلى صدور المتظاهرين لم تحرك إدارة أوباما ساكنا واكتفت بالشجب والاستنكار الكلامي العابر.
وحين اضطر شباب الثورة إلى حمل السلاح دفاعا عن أحيائهم من شبيحة النظام لم تفعل شيئا، بل أوحت لبشار ولإيران بأنها غير معنية بشيء، الأمر الذي شجعهما على الإيغال أكثر في الدم السوري البريء. وظلت مصرة على عدم السماح بتسليح المعارضين السوريين المعتدلين، بحجة الخوف من انتقال الأسلحة إلا منظمات إرهابية تكفيرية، وكانت النتيجة أن هذه التنظيمات وجدت وسائلها الخصة التي أمنت لها أفضل الأسلحة وأحدث العتاد.
وعلى امتداد المحرقة السورية ظلت تصر على أن الحل السياسي وحده الكفيل بإنهاء المشكلة السورية وما زالت تصر عليه، وهو عشم إبليس بالجنة، كما يقول المثل.
كما أن هذه الإدارة لم تبخل على الإخوان المسلمين بالدعم والمساندة في مصر، حتى خسرت مصر وجيشها وشعبها، وأعادت الروس إليها من جديد، والآتي أعظم. يضاف إلى ذلك تطنيشها عن تدفق السلاح والمقاتلين إلى سيناء لإقلاق مصر من شرقها، ومنعت الحل السياسي في ليبيا وغضت نظرها عن تنامي الداعشيين لتهديد أمن مصر من غربها، أملا في لي ذراعها وإعادتها إلى بيت الطاعة، ولكن بعد فوات الأوان.
وما زالت تصر على الحوار والمصالحة في ليبيا. وقد ثبت بالوقائع والبراهين أن الحوار الذي يتمسح به الأمريكيون والأوربيون لن يأتي على أحد بأمن وسلام واستقرار وازدهار. إذ كيف يمكن أن يقتنع أحد بعقلانية الدعوة الأمريكية إلى الجمع بين داعش وأنصار الشريعة والإخوان المسلمين في ليبيا مع برلمان جاء عبر صناديق اقتراع، وبمواصفات الديمقراطية الأمريكية الانتخابية ذاتها، ومع حكومة ليبية تزعم الإدارة نفسها بأنها شرعية ولن تعترف بغيرها؟
فهل يعقل أن يجري حوار ر بين ذباحين نباحين لا يؤمنون بسلام وحوار، ويصرون على فرض هيمنة عقيدتهم العنفية السلفية الظلامية بقوة السلاح وحده لا شريك له؟.
ومن كل هذا الذي جرى ويجري على أيدي أوباما ومستشاريه الديمقراطيين لابد أن يتحقق فوز الجمهوريين بالرئاسة، وربما فوزهم بالكونغرس بمجلسيه. ومعروف مدى رفض الجمهوريين لسياسة المهادنة، وميولهم الحربية ضد بشار وداعش معا، وإصرارهم على ضرورة عدم منح إيران الخد الأيسر والخد الأيمن دائما، دون قيود، ودون زمن محدد.
ولكن المتوقع، بل المؤكد، أن يعود الحزب الجمهوري بـ (محافظيه الجدد) اليمينيين المتطرفين الذين يؤمنون بقوة أمريكا وهيمنتها على العالم، أمثال وولف ووتز ورفاقه.
وقد علمتنا التجارب أن دعاة الحروب هؤلاء، أميون بتواريخ الشعوب، وعاجزون عن تقدير المتغيرات الحاصلة في العالم، والتي لم تعد تسمح بالوحدانية الأمريكية تقرير مصير الكرة الأرضية، وجهلة في ما حدث من تبدلات في أمزجة الشعوب وثقافاتها ومواقفها، خصوصا في الشرق العربي وأفريقيا وأجزاء واسعة من آسيا وأوربا، وأمريكا ذاتها. ولا أحد ينسى أن أكبر الحرائق في العالم كان للجمهوريين نصيب كبير من مسؤولية إشعالها.
فوولف ووتز، نائب وزير الدفاع الأسبق وأحد أركان الإدارة الأمريكية بحقبة الرئيس جورج بوش الإبن، والمستشار الحالي لشؤون السياسة الخارجية لجيب بوش أعلن من الآن اعتراضه، واعتراض رفاقه المحافظين الجد ضمنا، على سياسة أوباما الإسلامية القائمة على رفض الربط بين االإرهاب والإسلام. حيث قال في آخر تصريحاته:
"أنا أتفهم بعض الشيء دوافعه للقيام بذلك، فهو لا يريد منح المسلمين المتطرفين فرصة الهيمنة على هوية العالم الإسلامي، ولكنني أظن أن الادعاء بعدم وجود صلة للإسلام بالمشكلة القائمة هو أيضا أمر خاطيء."
" الناس تدرك أن الإسلام مرتبط بشكل ما بالأمر الذي نحاربه، وعندما ننكر ذلك نخسر بعض الدعم والتفهم من الشعب الأمريكي."
يعني أن تغييرا كبيرا سيحدث في تعامل الإدارة القادمة مع الإسلام والمسلمين، وليس هناك ضمانات بأن يكون هذا التغيير في صالح المسلمين المعتدلين العقلانيين المتنورين.
أما التغيير الآخر الأكبر الذي يبشر به (وولف ووتز) فهو الخروج من دائرة التحالف مع إيران وأحزابها ومليشياتها الشيعية إلى التحالف مع السنة وأحزابهم ودولهم. يقول:
" المسار الحالي للأمور لا يُظهر أننا ننتصر، وهذه مشكلة، وأظن أن الأمر الأفضل لنا هو البحث عن حلفاء من السنة، وألا نكون مجرد قوة جوية للمليشيات الشيعية في العراق."
وفي تقديري الشخصي سيكون أول رأس يطير في عهد الرئيس الجمهوري بوش هو رأس بشار الأسد، وقد يتبعه رأس حسن نصر الله، لكسر العمود الفقري الإيراني في المنطقة، أملا في إجبارها على قبول الرضوخ لإرادة أمريكا وإسرائيل والتخلي عن طموحها النووي وعن أحلامها بالتوسع المنطقة وفرض نفسها شرطيها الوحيد.
خلاصة القول هي أن هذه النافعة، كما تبدو لبعضنا، ضارة كبرى أيضا، وقد تكون فاتحة لأبواب جهنمية جديدة لا طاقة لأحد على تحمل عواقبها الطاحنة. أما من يحلم منا بغد أفضل يأتي على يدي الرئيس الجديد فهو واحد من اثنين، إما سابح في سراب، أو مقامر لا يجيد القمار.
مقالات اخرى للكاتب