مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية
الربيع العربي حركات احتجاجية سلمية ضخمة انطلقت في بعض البلدان العربية خلال أواخر عام 2010 ومطلع 2011، متأثرة بالثورة التونسية التي اندلعت ونجحت في الإطاحة بالرئيس السابق زين العابدين بن علي، وكان من أسبابها الأساسية انتشار الفساد والركود الاقتصاديّ وسوء الأحوال المَعيشية، إضافة إلى التضييق السياسيّ والأمني وعدم نزاهة الانتخابات في معظم البلاد العربية، ولا زالت هذه الحركة مستمرة حتى هذه اللحظة، نجحت الثورات بالإطاحة بأربعة أنظمة حتى الآن، فبعدَ الثورة التونسية نجحت ثورة 25 يناير المصرية بإسقاط الرئيس السابق محمد حسني مبارك، ثم ثورة 17 فبراير الليبية بقتل معمر القذافي وإسقاط نظامه، فالثورة اليمنية التي أجبرت علي عبد الله صالح على التنحي.
وقد بلغت الحركات الاحتجاجية جميع أنحاء العالم العربي، وتميزت هذه الثورات بظهور هتاف عربيّ ظهر لأول مرة في تونس وأصبح شهيرًا في كل الدول العربية وهو (الشعب يريد إسقاط النظام).
وهنا نطرح عدد من الأسئلة وهي: هل إسرائيل سعيدة بما تعيشه الدول العربية من ثورات وما تتأثر به الدول الأخرى التي لم تصلها الثورات؟ وهل إسرائيل خائفة أم فرحة بما يحدث؟ وهل إسرائيل غير مهتمة بـ(حسني مبارك) بعد أن ترك الحكم وأصبح متهماً بانتظار محاكمته؟ أم تعتقد أنها خسرت صديقاً وحليفاً لا يمكن تعويضه؟ هل تريد إسرائيل أن يسقط النظام في سوريا أم أنها تفضل بقاء النظام بمن فيه؟ هل الثورات العربية في صالح إسرائيل أم أنها ضد مصالحها؟ هل ستعاني إسرائيل في المرحلة المقبلة بسبب وجود حكومات جديدة بأفكار ورؤى وتوجهات مختلفة أم أنها ستكون مرتاحة لانشغال الدول الثورية بترتيب أوضاعها الداخلية وبناء أوطانها الجديدة وبالتالي انشغالها عن إسرائيل كذلك انشغال الدول التي لم تصلها الثورات بالعمل لتفادي ثورة قد تأتي؟ وبالتالي تحمل أعباء مالية إضافية لدواعي الأمن والدفاع في وقت تعاني فيه إسرائيل ضغوطاً اقتصادية وشعبية، ألن يؤدي عدم الاستقرار في الأردن إلى زعزعة الهدوء والاستقرار على طول حدودها وبالتالي توفير موارد مالية كبيرة لتأمين حدودها؟ ألن تؤدي ثورة ديمقراطية في الأردن التي تضم عدداً كبيراً من ذوي الأصول الفلسطينية إلى تغيير قواعد اللعبة مع إسرائيل، وتغيير شروط السلام؟ ألن يشكل كل ذلك خطراً على إسرائيل واستقرارها؟
فعلى الرغم من الارتياح الغربي لثورات الربيع العربي في البداية وبالحماس وبالأمل، وعلى الرغم من أن هذه التغيّرات التي تشهدها المنطقة لم ينظر إليها من المنظور السلبيّ فقط، بل تنطوي على فرصٌ هامة للسياسة الخارجية الإسرائيلية ولموقعها الإقليمي، وهو ما جعل واضعي القرار السياسي في إسرائيل يلاحظونها ويعملون من أجل تحقيقها، كذلك تجنب كل ما يمكن إن يسبب الضرر لإسرائيل، إلا أنها اعتُبرت أيضا تهديدًا للأمن القوميّ وبداية مرحلة طويلة من عدم الاستقرار وتوسيع رقعة المد الإسلامي، وتعكس سياسة إسرائيل الرسميّة تجاه الربيع العربي هذه المخاوف.
إذ تزعّم رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو الخط الرسمي بشأن الأحداث فرسم من خلال تصريحاته العامة صورةً سلبيَّة تشدّد على المخاطر والتهديدات الكامنة في هذه العملية.
وقد تحدث نتنياهو عن سيناريوهات وأحداث تشاؤميّة وانتقد أولئك الذين يرون في الأحداث إشارات ايجابية ("الشرق الأوسط ليس مكانًا للمغفّلين"). يختلف هذا الطرح الذي تبناه نتنياهو بشكل جوهريٍّ عن الموقف الذي عبّر عنه في كتابه وفي تصريحاته قَبل عقدين من الزمان، حينذاك دعا نتنياهو الغرب إلى دعم الإصلاحات الديمقراطية في الدول العربية وقرّر أنَّ العقبة الأساسيَّة للسلام في المنطقة هي غياب الديمقراطية، كما ويلاحظ أنَّ الرسائل التي عبّر عنها، والتي كانت موجهةً إلى المجتمع الدولي، يختلف مضمونها في حالات كثيرة عن تلك التصريحات التي أدلى بها في الداخل.
وأيا كان ما آلت إليه الأحداث، طوت الثورات العربية بين ثناياها هواجس شتى لإسرائيل، فبقدر ما أثلج صدرها ذلك الهدر والنزيف المتواصل في قوة وأرصدة الدول العربية جراء الأعراض السلبية لتلك الثورات، استبدت بالإسرائيليين مخاوف جمة جراء احتمالات تفشي الفوضى في تلك البلدان بما يمهد السبيل لتغلغل تنظيم القاعدة في ربوعها، ويمكنه من السيطرة على بعض الأسلحة المتطورة من الصواريخ الباليستية والمضادة للطائرات، علاوة على الرؤوس الكيماوية والبيولوجية.
والهاجس الإسرائيلي من الربيع العربي جاء لعدة أسباب منها:
1- اقتصاديا، انعكست الأوضاع الخارجية في الدول العربية على إسرائيل التي بدأت تعاني من وضع داخلي صعب جداً، فتأثير الربيع العربي والمظاهرات والاحتجاجات العربية وصلت إلى بدء ما يطلق عليها "ثورة الخيام" الإسرائيلية، والتي طالب المشاركون الإسرائيليون فيها بتعديل أوضاعهم الاجتماعية والمعيشية، وخرجوا تحت شعار "الشعب يريد عدالة اجتماعية"، والتي أصبحت تتسع يوماً بعد يوم، وسوف تشكل هذه المظاهرات ضغطاً على مستقبل رئيس الوزراء بشكل مباشر كما تشكل ضغطاً على الحكومة الإسرائيلية، وبلا شك أن إسرائيل ستحتاج إلى مخرج حقيقي لتحمي نفسها من أي هزة تؤثر على وجودها واستقرارها.
2- تتخوف إسرائيل من أن يفضى صعود نخب عربية منتخبة ديمقراطيا للسلطة إلى تغيير قواعد إدارة الصراع العربي الإسرائيلي على غير هوى الإسرائيليين، عبر تقويض قدرة تل أبيب على مواصلة فرض تصوراتها الخاصة بالسلام على العرب، إذ إن إسرائيل تشعر اليوم أكثر من أي وقت مضى أنها أضاعت فرصاً عديدة وثمينة للتسوية وإنهاء الصراع، الأمر الذي كان يمكن أن يجعلها في مأمن من تأثيرات "الربيع العربي"، لكن بسبب عنادها وتعاليها على العرب فإنها رفضت كل المقترحات، وخطط السلام العربية وغير العربية، وذلك بسبب اعتقادها بأنها الطرف الأقوى في المعادلة، وكذلك بسبب الدعم المطلق، الذي تحصل عليه من الولايات المتحدة والغرب.
3- أما في حالة نجاح الثورات العربية، فتخشى إسرائيل من أن يمهد ذلك السبيل لبناء دول عربية أكثر ديمقراطية وقوة واستقرارا، وأشدّ ميلا للتخلي عن التبعية لواشنطن، وتنويع علاقاتها بالقوى الكبرى، والتقارب مع تركيا وإيران إستراتيجيا، بما يعيد هيكلة وترتيب موازين القوى التقليدية في المنطقة على غير مصلحة إسرائيل، وهو ما يفسر الهرولة الإسرائيلية لاسترضاء تركيا، بالتوازي مع الإمعان في تفزيع العرب وغيرهم من الخطر النووي الإيراني.
4- ويرى خبراء إسرائيليون في دمقرطة الدول العربية مصدر تهديد حقيقي لبلادهم، فإلى جانب نجاحها في حرمان إسرائيل من استثمار ادعاءاتها بأنها "الديمقراطية الوحيدة" في المنطقة، قد يسفر تعاظم دور الشارع العربي في صنع القرار السياسي عن تغير جوهري في إستراتيجيات تعاطي الأنظمة العربية المنتخبة ديمقراطيا مع إسرائيل. ففي دولة كمصر، وعلى خلاف الرئيس السابق (حسني مبارك) -الذي كانت إسرائيل تعتبره كنزا إستراتيجيا لها- ربما تحاول النخبة الحاكمة الجديدة إعادة النظر في محتويات معاهدة كامب ديفيد، وتعديل بنودها المجحفة بحق مصر، أو تراجع مدى الالتزام المتبادل بها. الأمر الذي حمل إسرائيل على البحث عن ضمانات غربية لالتزام مصر ما بعد الثورة بالمعاهدة التي تمثل أحد أعمدة الأمن القومي الإسرائيلي، حيث يشكل انهيارها كارثة اقتصادية محققة لإسرائيل التي ستضطر –عندئذ- لإعادة صوغ عقيدتها العسكرية والأمنية، وتبنى إجراءات وقائية تعتصر اقتصادها وتستنزف مواردها.
5- لقد ربط مسؤولون إسرائيليون بين التحديات الأمنية الآنية والمستقبلية التي فرضتها الثورات العربية على بلادهم، وبين الإجراءات الاقتصادية التقشفية التي أقدمت عليها حكومة نتنياهو مؤخراً، كزيادة الضرائب، رفع الأسعار، تقليص الخدمات المدنية وتخفيض مخصصات الضمان الاجتماعي وموازنات الوزارات المدنية، إذ طالبت النخب السياسية والعسكرية الإسرائيلية -على وقع تلك الثورات- بزيادة ميزانية الأمن والدفاع، وإعادة صياغة سلم الأولويات الإسرائيلي بما يسمح بتوفير موارد لتمويل النفقات الأمنية المتعاظمة، والاستثمار في مجال الدفاع الوقائي.
وما عزز من تلك الهواجس الإسرائيلية ظهور مؤشرات ملفتة لتغيرات مقلقة في توجهات سياسة مصر الخارجية مؤخرا، تجلت في مغازلة إيران، واحتضان جهود المصالحة الفلسطينية، وفتح المعابِر توطئة لإنهاء الحصار على غزة، ناهيك عن المطالب الشعبية والرسمية المتصاعدة بإعادة التفاوض حول تصدير الغاز المصري لإسرائيل، وضرورة فتح ملف حصة مصر في بترول وغاز شرق المتوسط، والتي فرط فيها مبارك ضمن صفقة مبهمة وغير مبررة.
6- فقد تجنح النخب العربية المنتخبة لنصرة الحقوق الفلسطينية من خلال تبني مواقف عقابية تصعيدية حيال الانتهاكات الإسرائيلية، أو إعادة ملف الصراع إلى الأمم المتحدة مجددا، وتتوجس إسرائيل كذلك من أن يحيي الربيع العربي خيار النضال المسلح لدى الفلسطينيين، خصوصا بعد أن أظهر العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة مدى التطور النوعي في القدرات العسكرية لحركات المقاومة الفلسطينية، هذا علاوة على مخاوف تل أبيب من اندلاع انتفاضة جديدة في الضفة الغربية تقض مضاجع الإسرائيليين بعد حالة من الاستقرار الحذر دامت لما يزيد على سنوات كثيرة.
7- كذلك، انتاب إسرائيل قلق عميق من إمكانية تحول الربيع العربي إلى شتاء إسلامي، بصعود تيارات إسلامية معتدلة ومعادية لها إلى السلطة في الدول التي سقطت أنظمتها، المنطق يقول إن على إسرائيل أن تقلق وتخشى على نفسها ووجودها كما لم تقلق من قبل، ليس فقط لاحتمال وصول الإسلاميين إلى الحكم في مصر والدول التي تشهد التغيير، بل لأن الجديد القادم للحكم بعد الثورة -وان لم يكن إسلامياً- لن يعرف كيف يتعامل مع إسرائيل لأنه منتصر ويحب النصر ولا يتكلم إلا بلغة القوة التي أسقط بها حكوماته، وفي المقابل فإن إسرائيل لا تعرف أن تتعامل إلا مع المنهزمين أمامها والمستعدين لتقديم التنازلات، لذا فإن على إسرائيل أن تقلق، ولكن ماذا ستفعل إذا قلقت فعلاً؟ هذا السؤال يجب أن تكون إجابته عند العرب، الأمر الذي اعتبره الجنرال (أيال أيزنبرج) المسؤول عن الدفاع المدني نذيرا باندلاع حرب شاملة لا تخلو من احتمالات استخدام أسلحة دمار شامل، خصوصا إذا ما سقط نظام بشار الأسد. واستشهد أيزنبرج بالمواجهات التي وقعت على حدود وقف إطلاق النار بين سوريا وإسرائيل بالجولان المحتل.
وعلى هذا، فالربيع العربي خلط كثيراً من الأمور في المنطقة، ويبدو أن الأوراق المرشحة للخلط ستكون أكثر في المستقبل، وذلك بسبب تأثيرات "الربيع العربي"، التي يبدو أنها ستكون جوهرية، وقد تغير مجرى التاريخ، وتدخل المنطقة في حقبة تاريخية جديدة مختلفة عما كانت عليه في السابق، وهذا ما يفترض أن يدفع الدول العربية إلى الاستعداد لما هو قادم.
مقالات اخرى للكاتب