المعرفة وعلاقتها بالوعي والعقل والوجود أولا من القضايا التي أستغرق فيه الفلاسفة بحثا وأستغراق وأختلافا دون أن يتفقوا على فكرة أشبه بالكاملة أو المجمع عليه، المشكلة ليست في ماهية المعرفة من كونها ظاهرة رافقت الإنسان وألتصقت به دون سائر المخلوقات، على الأقل من جانبها العقلي أو الجانب الذي يكشف للإنسان قيمة ما يملك من قابلية للتعامل بها أو أنتاجها وخزنها ونقلها وتطويرها، فالمعرفة أصلا تتميز عن غيرها من المواضيع البحثية أنها هائمة في بحر من اللا محدد الشيئية بحسب ما ينظر الباحث لها من زاوية خاصة، البعض يرى أن لكل وعي معرفة ولكل معرفة أمتداد مادي حسي أولي ينجح العقل في كل مرة أن يكتشف شيئا منها ليس لأنها قريبة منه فقط ولكن ليتخلص من شبح المجهول واللا معلوم الذي يطارده في واقعه، هنا نسجل للمعرفة نقطة أنها تصنع الدافع بل هي أحيانا ذات الدافع بصورة حاجة.
البعض يزيد أكثر أن لكل الموجودات معرفة خاصة حتى التي لا يدرك لها من قبلنا وعي، مع حقيقة أن وعي كل كائن هو وعي أصيل فيه لا يشاركه أحد ولا يماثله أحد، لأن الوعي الذاتي من طبيعة التكوين والكيفية التي وجدت التكوين أو أوجدته، فالحجر الذي لا نرى فيه إلا مجرد جماد لا إحساس له ولا وعي لا يمكن أن يكون خاليا من وعي بذاته لذاته ومن ثم للماحول الطبيعي، هذا فهم غريب حقا، ولكن من جرب أن يكون حجرا مرة واحدة وأكتشف أنه أي الحجر لا وعي له ولا معرفة بوعيه، هذا سؤال للفلاسفة أولا ولا يحتاج لتأكيد أو نفي لأنه حالة خاصة بواقع خاص، الحيوانات لها وعي ولها إدراك ولها معرفة، ولكن لا يمكن أن نقيس بمقياس إنساني وعي الحيوان ولا نستطيع كشف معرفته بنفس الوسائل والأساليب والقيم العلمية التي نمارسها مع الإنسان الطبيعي.
إذن الوعي محكوم بالوجود الذاتي والوجود محكوم بقانون الكيف والكون، وقانون الكيف والكون محكوم بالعلة، وبالتالي هذه السلسلة المترابطة تختلف من كائن لكائن، قد يرى البقر نفسه أكثر وعيا من كل الكائنات وأكثر معرفة بواقعه، ولذلك لم يسعى لتجديد الوعي والمعرفة عنده لأنه وصل الكمال فيهما، الإنسان وحده هو من يمارس عملية التجديد وعملية التنوع والأختلاف في مصادر الوعي وطرق المعرفة لسبب بسيط جدا، هو أنه وضع مقياس الكمال في النقطة اللا نهائية وبالتالي فهو مستغرق تماما في السعي لها دون أن ينجح في حصاد أو الوصول لتلك النقطية التي في ما بعد البعيد، لو أمن الإنسان أن وعيه نهائي ومعرفته كاملة لتوقف عن النمو وصار من ضمن الكائنات النهائية وتنقطع لدية سلسلة المعارف، فهو يكتشف كل يوم أن ما يحيط به يدعوه لتجديد الحاجة وتجديد معرفته في طريق الوصول للجديد.
البعض ينطلق من فكرة أن المعرفة سبقت الإنسان لأنها موجودة قبله، والإنسان فقط مكتشف لها عقلا وبالتجربة، الأخر يبني نظريته على أن المعرفة ذاتها وليدة عملية معقدة تحتاج للعقل أولا وعند ما وجد الإنسان نفسه قادرا أن يستخدم عقله صار القانون الوجودي معرفة وصار التعامل به على أنه ماهية بفضل العقل، فالطريق للمعرفة وتحديدها يبدأ من أول حركة للعقل حين يعي ذاته، أخرون حاولوا الدمج بين الفكرتين بوضع المعرفة في دائرة المجهول اللا معلوم ووظيفة العقل ليس أكتشافها بل تسميتها بأسمها بعد أن مارس دورا تعقليا لأعطائها الهوية الماهوية.
أخرون يفترضون مثلا أن المعرفة لا يمكن أن تكون موجودة بذاتها لسبب بسيط أن المدلول لا يدل على وجوده إلا بدالة، فهو وإن كان حقيقة فإنه محتاج للدلالة عليه حتى يكون كذلك، المعرفة بدون وعي بها لا تسمى معرفة لأنها ما عرفت بعد ولم يقربها تعريف العقل لها، ولولا وجود الإنسان لبقيت المعرفة في حدودها المجهولة عند نقطة الأنتهاء التي يتمتع بها كل كائن بحسب وعيه الذاتي، وبما أن الإنسان بعقله صار واعيا، هنا تتضح جدلية الوعي والمعرفة وجدلية الماهية والوجود، بمعنى لو لم يكن الإنسان قد وجد بعد لم تكن لعملية أو حقيقة وجود الوعي أي قيمة لأنها بلا أداة للتقييم.
هناك رأي أخر وهو الرأي المثالي الذي يستند في مقدمته للدين، حيث يطرح رؤيته الخاصة بفرضيتين، الأولى لولا وجود الله خالق للوجود لا يوجد وجود ولا يمكن أن يحكم هذا الوجود قانون أو وعي ذاته بوجوده، فالمعرفة أولا هي نتاج خلق خارجي رتب الأشياء بمنظومة تسلسلية جدلية تبدأ من الخلق وتنتهي به، الفرضية الثانية تقول أن المعرفة كائن خلقه الله أيضا وزجه بالنظام الوجودي ومنح لكل موجود ما يلائم وجوده تناسبا وتكاملا، فلا يمكن للحيوان مثلا أن يتحول إلى كائن معرفي أكثر مما فيه بالتكوين مهما حاول أو جرى زجه في محاولة لذلك، كذلك الإنسان لا يمكن أن يتسافل في معرفة للحد الذي يتحول إلى حيوان مشابه لغيره كقاعدة عامة مطلقة وكلية، قد يفقد جزء من هذه الواقعية الفرضية ولكن كفرد لا ينقل معه موروثه إلى سلالته من بعده.
ويبقى سؤال المعرفة بدون جواب شاف حتى أن نحاول فهم ودمج والجمع بين النظر من الزوايا المتعددة بنظرة بانورامية تكشف كل الحقيقة، عندها يمكن أن نفهم بداية الجواب ونفهم لماذا أختلفنا أصلا في البحث وتقديم أجوبة جزئية عن حقيقة كلية، المعرفة بكل الأحوال هو الأنتقال العقلي من دائرة المجهول لدائرة اللا معلوم ثم دائرة العلم ليستقر لاحقا في دائرة ما بعد العلم به، حيث يغادر العقل الموضوع إلى مرحلة أكثر بعدا من مجرد موضوع الماهية والوجود، المعرفة إذن سلسلة لا تتوقف تبدأ من أول ذرة خلقت وتنامت وتطورت وأستحدثت قوانين عملها معها لتكون العالم الكلي بمعرفة كلية، إنها سيرورة الوجود حين يكشف هويته لنفسه وذاته، فالمعرفة ليست فقط ظاهرة خارجية عن الموجود داخلا وخارجا بل هي حقيقة ذات الوجود كيفا وتكوينا وعلة ونتيجة.
مقالات اخرى للكاتب